للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَشَأْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْإِهْلَاكِ، وَالنَّجَاةِ، وَالتَّحْذِيرِ، وَمَعْنَى مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مَا لَهُمْ مِنْ فِرَارٍ وَلَا مَهْرَبٍ، قَالَهُ قُطْرُبٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَا لَهُمْ مِنْ مَلْجَأٍ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ حَاصَ بِهِ الْبَعِيرُ حَيْصَةً: إِذَا رَمَى بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فُلَانٌ يَحِيصُ عَنِ الْحَقِّ، أَيْ: يَمِيلُ عَنْهُ فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ ذَكَرَ التَّنْفِيرَ عَنِ الدُّنْيَا، أَيْ: مَا أعطيتهم مِنَ الْغِنَى وَالسَّعَةِ فِي الرِّزْقِ فَإِنَّمَا هُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ يَنْقَضِي وَيَذْهَبُ. ثُمَّ رَغَّبَهُمْ فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ فَقَالَ: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَيْ: مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ثَوَابِ الطَّاعَاتِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا بِالْجَنَّاتِ خَيْرٌ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَأَبْقَى لِأَنَّهُ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ، وَمَتَاعُ الدُّنْيَا يَنْقَطِعُ بِسُرْعَةٍ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ لِمَنْ هَذَا فَقَالَ: لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: صَدَقُوا وَعَمِلُوا عَلَى مَا يُوجِبُهُ الْإِيمَانُ وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أَيْ: يُفَوِّضُونَ إِلَيْهِ أُمُورَهُمْ، وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ شُؤُونِهِمْ لَا عَلَى غَيْرِهِ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ الْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، أَوْ بَدَلًا مِنْهُ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِإِضْمَارِ: أَعْنِي وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينِ آمَنُوا وَلِلَّذِينِ يَجْتَنِبُونَ. والمراد بكبائر الْإِثْمِ: الْكَبَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ كَبائِرَ بِالْجَمْعِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «كَبِيرَ» بِالْإِفْرَادِ وَهُوَ يُفِيدُ مُفَادَ الْكَبَائِرِ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِلْجِنْسِ كَاللَّامِ. وَالْفَوَاحِشُ هِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَكِنَّهَا مَعَ وَصْفِ كَوْنِهَا فَاحِشَةً كَأَنَّهَا فَوْقَهَا، وَذَلِكَ كَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْفَوَاحِشُ مُوجِبَاتُ الْحُدُودِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ الزِّنَا وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ أَيْ: يَتَجَاوَزُونَ عَنِ الذَّنْبِ الَّذِي أَغْضَبَهُمْ، وَيَكْظِمُونَ الْغَيْظَ، وَيَحْمِلُونَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ، وَخُصَّ الْغَضَبُ بِالْغُفْرَانِ لِأَنَّ اسْتِيلَاءَهُ عَلَى طَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَغَلَبَتَهُ عَلَيْهِ شَدِيدَةٌ، فَلَا يَغْفِرُ عِنْدَ سَوْرَةِ الغصب إِلَّا مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ وَخَصَّهُ بِمَزِيَّةِ الْحِلْمِ، وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: في آل عمران وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «١» قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جَعَلَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ: صِنْفًا يَعْفُونَ عَنْ ظَالِمِهِمْ فَبَدَأَ بِذِكْرِهِمْ، وَصِنْفًا يَنْتَصِرُونَ مِنْ ظَالِمِهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ سَيَأْتِي ذِكْرُهُمْ وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ أَيْ: أَجَابُوهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَأَقَامُوا مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَرِيضَةِ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمُ الْأَنْصَارُ بِالْمَدِينَةِ اسْتَجَابُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ حِينَ أَنْفَذَ إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْهُمْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ لِمَوَاقِيتِهَا بِشُرُوطِهَا وَهَيْئَاتِهَا وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أَيْ: يَتَشَاوَرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَا يَعْجَلُونَ، وَلَا يَنْفَرِدُونَ بِالرَّأْيِ، وَالشُّورَى مَصْدَرُ شَاوَرْتُهُ مِثْلَ الْبُشْرَى وَالذِّكْرَى. قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ تَشَاوُرُهُمْ حِينَ سَمِعُوا بِظُهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَوُرُودِ النُّقَبَاءِ إِلَيْهِمْ حِينَ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ فِي دَارِ أَبِي أَيُّوبَ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالنُّصْرَةِ لَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَشَاوُرُهُمْ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَعْرِضُ لَهُمْ فَلَا يَسْتَأْثِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِرَأْيٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ:

إِذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فِاسْتَعِنْ ... برأي لبيب أَوْ نَصِيحَةِ حَازِمِ

وَلَا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غضاضة ... فريش الخوافي قُوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ

وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي أُمُورِهِ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ سبحانه بذلك فقال:


(١) . آل عمران: ١٣٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>