وَالْبَنَاتِ تَقُولُ الْعَرَبُ: زَوَّجْتُ إِبِلِي: إِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُخْتَلَفَ فِي مِثْلِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَهَبُ لِبَعْضِ خَلْقِهِ إِنَاثًا، وَيَهَبُ لِبَعْضٍ ذُكُورًا، وَيَجْمَعُ لِبَعْضٍ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً لَا يُولَدُ لَهُ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى، وَالْعَقِيمُ الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ، يُقَالُ رَجُلٌ عَقِيمٌ وَامْرَأَةٌ عَقِيمٌ، وَعَقَمَتِ الْمَرْأَةُ تَعْقُمُ عُقْمًا، وَأَصْلُهُ الْقَطْعُ، وَيُقَالُ نِسَاءٌ عُقْمٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
عُقِمَ النِّسَاءُ فَمَا يَلِدْنَ شَبِيهَهُ ... إِنَّ النِّسَاءَ بِمِثْلِهِ عُقْمُ
إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ أَيْ: بَلِيغُ الْعِلْمِ عَظِيمُ الْقُدْرَةِ وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَيْ:
مَا صَحَّ لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَشَرِ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلَّا بِأَنْ يُوحِيَ إِلَيْهِ فَيُلْهِمَهُ وَيَقْذِفَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ: نَفَثَ يَنْفُثُ فِي قَلْبِهِ، فَيَكُونُ إِلْهَامًا مِنْهُ كَمَا أَوْحَى إِلَى أَمِّ مُوسَى، وَإِلَى إِبْرَاهِيمَ فِي ذَبْحِ وَلَدِهِ أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى، يُرِيدُ أَنَّ كَلَامَهُ يُسْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَا يُرَى، وَهُوَ تَمْثِيلٌ بِحَالِ الْمَلِكِ الْمُحْتَجِبِ الَّذِي يُكَلِّمُ خَوَاصَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ أَيْ: يُرْسِلَ مَلَكًا، فَيُوحِيَ ذَلِكَ الْمَلَكُ إِلَى الرَّسُولِ مِنَ الْبَشَرِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَتَيْسِيرِهِ مَا يَشَاءُ أَنْ يُوحِيَ إِلَيْهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لِلْبَشَرِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِلْهَامٍ يُلْهِمُهُمْ، أَوْ يُكَلِّمُهُمْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى، أَوْ بِرِسَالَةِ مَلَكٍ إِلَيْهِمْ.
وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُوحِيَ وَحْيًا، أَوْ يُكَلِّمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا.
وَمَنْ قَرَأَ «يُرْسِلُ» رَفْعًا أَرَادَ وَهُوَ يُرْسِلُ، فَهُوَ ابْتِدَاءٌ وَاسْتِئْنَافٌ اه. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ أَوْ يُرْسِلَ وَبِنَصْبِ فَيُوحِيَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ، وَتَكُونُ أَنْ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَعْطُوفَيْنِ عَلَى وَحْيًا، وَوَحْيًا فِي مَحَلِّ الحال، والتقدير: أو مُوحِيًا أَوْ مُرْسِلًا، وَلَا يَصِحُّ عَطْفُ أَوْ يُرْسِلَ عَلَى أَنْ يُكَلِّمَهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ رَسُولًا، وَهُوَ فَاسِدٌ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ غَيْرُ هَذَا مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ «أَوْ يُرْسِلُ» بِالرَّفْعِ، وَكَذَلِكَ «فَيُوحِي» بِإِسْكَانِ الْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ هُوَ يُرْسِلُ، كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: مُتَعَالٍ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ، حَكِيمٌ فِي كُلِّ أَحْكَامِهِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تُكَلِّمُ اللَّهَ وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى، فَنَزَلَتْ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا أَيْ: وَكَالْوَحْيِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، الْمُرَادُ بِهِ: الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْوَحْيَ بِأَمْرِنَا وَمَعْنَاهُ الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُ يُهْتَدَى بِهِ، فَفِيهِ حَيَاةٌ مِنْ مَوْتِ الْكُفْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ صِفَةَ رَسُولِهِ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ فَقَالَ:
مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ هُوَ، لأنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ، وَلَا يَكْتُبُ وَذَلِكَ أُدْخِلَ فِي الْإِعْجَازِ، وَأَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ نَبُّوتِهِ، وَمَعْنَى وَلَا الْإِيمانُ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لَا يَعْرِفُ تَفَاصِيلَ الشَّرَائِعِ وَلَا يَهْتَدِي إِلَى مَعَالِمِهَا، وَخُصُّ الْإِيمَانُ لِأَنَّهُ رَأْسُهَا وَأَسَاسُهَا، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْإِيمَانِ هُنَا الصَّلَاةَ. قَالَ بِهَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: مِنْهُمْ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تعالى:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute