هِيَ الْإِسْلَامُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْكَلِمَةُ هِيَ قوله: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «١» وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ تَعْلِيلٌ لِلْجَعْلِ، أَيْ: جَعَلَهَا بَاقِيَةً رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهَا مَنْ يُشْرِكُ مِنْهُمْ بِدُعَاءِ مَنْ يُوَحِّدُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَعَلَّهُمْ رَاجَعٌ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، أَيْ: لَعَلَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَرْجِعُونَ إِلَى دِينِكَ الَّذِي هُوَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَجَعَلَهَا ... إِلَخْ. قَالَ السُّدِّيُّ: لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ، فَيَرْجِعُونَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نِعْمَتَهُ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُمْ فَقَالَ:
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ أَضْرَبَ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إِلَى ذِكْرِ مَا مَتَّعَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَنْفُسِ وَالْأَهْلِ وَالْأَمْوَالِ وَأَنْوَاعِ النِّعَمِ وَمَا مَتَّعَ بِهِ آبَاءَهُمْ وَلَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، فَاغْتَرُّوا بِالْمُهْلَةِ وَأَكَبُّوا عَلَى الشَّهَوَاتِ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ يَعْنِي الْقُرْآنَ وَرَسُولٌ مُبِينٌ يَعْنِي محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَمَعْنَى مُبِينٌ ظَاهِرُ الرِّسَالَةِ وَاضِحُهَا، أَوْ مُبَيِّنٌ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا صَنَعُوهُ عِنْدَ مَجِيءِ الْحَقِّ فَقَالَ: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ أَيْ: جَاحِدُونَ، فَسَمَّوُا الْقُرْآنَ سِحْرًا وَجَحَدُوهُ. وَاسْتَحْقَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ الْمُرَادُ بِالْقَرْيَتَيْنِ: مَكَّةُ، وَالطَّائِفُ، وَبِالرَّجُلَيْنِ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَعُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ مِنَ الطَّائِفِ كَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ مِنْ مَكَّةَ، وَعُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلَ الثَّقَفِيُّ مِنَ الطَّائِفِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّ الْمُرَادَ رَجُلٌ مِنْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمُ الْجَاهِ وَاسِعُ الْمَالِ مُسَوَّدٌ فِي قَوْمِهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قُرْآنًا لَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْقَرْيَتَيْنِ، فَأَجَابَ الله سبحانه عنهم بقوله:
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يَعْنِي: النُّبُوَّةَ أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي قَسَمَ بَيْنَهُمْ مَا يَعِيشُونَ بِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَقَالَ: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَمْ نُفَوِّضْ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ أَنْ يَتَحَكَّمَ فِي شَيْءٍ بَلِ الْحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي قَسَمَ بَيْنَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ وَرَفَعَ دَرَجَاتِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَكَيْفَ لَا يَقْنَعُونَ بِقِسْمَتِهِ فِي أَمْرِ النُّبُوَّةِ، وَتَفْوِيضِهَا إِلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يقول أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَعِيشَتَهُمْ بِالْإِفْرَادِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، ومجاهد، وابن محيصن «معايشهم» بالجمع «و» معنى رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أَنَّهُ فَاضَلَ بَيْنَهُمْ فَجَعَلَ بَعْضَهُمْ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا بِالرِّزْقِ، وَالرِّيَاسَةِ، وَالْقُوَّةِ، وَالْحُرِّيَّةِ، وَالْعَقْلِ، وَالْعِلْمِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْعِلَّةَ لِرَفْعِ دَرَجَاتِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ:
لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أَيْ: لِيَسْتَخْدِمَ بعضهم بعضا فيستخدم الغنيّ الفقير، والرئيس المرؤوس، وَالْقَوِيُّ الضَّعِيفَ، وَالْحُرُّ الْعَبْدَ، وَالْعَاقِلُ مَنْ هُوَ دونه في الْعَقْلِ، وَالْعَالِمُ الْجَاهِلَ، وَهَذَا فِي غَالِبِ أَحْوَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَبِهِ تَتِمُّ مَصَالِحُهُمْ وَيَنْتَظِمُ مَعَاشُهُمْ وَيَصِلُ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى مَطْلُوبِهِ، فَإِنَّ كُلَّ صِنَاعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ يُحْسِنُهَا قَوْمٌ دُونَ آخَرِينَ، فَجُعِلَ الْبَعْضُ مُحْتَاجًا إِلَى الْبَعْضِ لِتَحْصُلَ الْمُوَاسَاةُ بَيْنَهُمْ فِي مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى هذا، ويصنع هذا لهذا، ويعطي هذا هذا. قال السدّي وابن زيد: سخريا: خولا وخداما، يسخر الأغنياء الفقراء
(١) . البقرة: ١٣١.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute