وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْتِ الْقَصْدُ إِلَى النَّارِ لَا النَّظَرُ إِلَيْهَا بِبَصَرٍ ضَعِيفٍ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ، فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ أنه بِمَعْنَى الْقَصْدِ، وَبِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ وَهَكَذَا مَا أَنْشَدَهُ الْخَلِيلُ مُسْتَشْهِدًا بِهِ عَلَى مَا قَالَهُ مِنْ قَوْلِ الْحُطَيْئَةِ:
مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مَوْقِدِ
فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَعْنَاهُ: تَقْصِدُ إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ، لَا تَنْظُرُ إِلَيْهَا بِبَصَرٍ ضَعِيفٍ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى فِي الْبَيْتَيْنِ الْمُبَالَغَةُ فِي ضَوْءِ النَّارِ وَسُطُوعِهَا، بِحَيْثُ لَا يَنْظُرُهَا النَّاظِرُ إِلَّا كَمَا يَنْظُرُ مَنْ هُوَ مُعَشَّى البصر لما يلحق بصره من الضعف عند ما يُشَاهِدُهُ مِنْ عِظَمِ وَقُودِهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: إِنَّ مَعْنَى وَمَنْ يَعْشُ وَمَنْ تُظْلِمُ عَيْنُهُ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِ الْخَلِيلِ، وَهَذَا عَلَى قراءة الجمهور وَمَنْ يَعْشُ بِضَمِّ الشِّينِ مِنْ عَشَا يَعْشُو.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمَنْ يَعْشُ بِفَتْحِ الشِّينِ، يُقَالُ عَشَى الرَّجُلُ يَعْشَى عَشْيًا إِذَا عَمِيَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
رَأَتْ رَجُلًا غَائِبَ الْوَافِدَيْنِ ... مُخْتَلِفَ الْخَلْقِ أَعْشَى ضَرِيرَا
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْعَشَا مَقْصُورٌ مَصْدَرُ الْأَعْشَى: وَهُوَ الَّذِي لَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ وَيُبْصِرُ بِالنَّهَارِ، وَالْمَرْأَةُ عَشْوَاءُ. وَقُرِئَ «يَعْشُو» بِالْوَاوِ عَلَى أَنَّ «مَنْ» مَوْصُولَةٌ غَيْرُ مُتَضَمِّنَةٍ مَعْنَى الشَّرْطِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً بِالنُّونِ وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبُ، وَعِصْمَةُ عَنْ عَاصِمٍ وَالْأَعْمَشِ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ شَيْطَانٍ عَلَى النِّيَابَةِ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ أَيْ:
مُلَازِمٌ لَهُ لَا يُفَارِقُهُ، أَوْ هُوَ مُلَازِمٌ لِلشَّيْطَانِ لَا يُفَارِقُهُ، بَلْ يَتْبَعُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَيُطِيعُهُ فِي كُلِّ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ إِلَيْهِ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أَيْ: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ يُقَيِّضُهُمُ اللَّهُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ يَعْشُو عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ كَمَا هُوَ مَعْنِيٌّ مِنْ لَيَصُدُّونَهُمْ: أَيْ يَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَبِيلِ الْحَقِّ وَيَمْنَعُونَهُمْ مِنْهُ، وَيُوَسْوِسُونَ لَهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى الهدى حتى يظنون صِدْقَ مَا يُوَسْوِسُونَ بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أَيْ: يَحْسَبُ الْكُفَّارُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ مُهْتَدُونَ فَيُطِيعُونَهُمْ، أَوْ يَحْسَبُ الْكُفَّارُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ أَنَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذا جاءَنا قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّثْنِيَةِ، أَيِ: الْكَافِرُ، وَالشَّيْطَانُ الْمُقَارِنُ لَهُ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ بِالْإِفْرَادِ، أَيِ: الْكَافِرُ أَوْ جَاءَ كلّ واحد منهم قالَ الكافر مخاطبا للشيطان يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أَيْ: بُعْدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَغَلَبَ الْمَشْرِقُ عَلَى الْمَغْرِبِ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: يَتَمَنَّى الْكَافِرُ أَنَّ بَيْنَهُمَا بُعْدَ مَشْرِقِ أَطْوَلِ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ مِنْ مَشْرِقِ أَقْصَرِ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ فَبِئْسَ الْقَرِينُ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَنْتَ أَيُّهَا الشَّيْطَانُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ هَذَا حِكَايَةٌ لِمَا سَيُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَيْ: لِأَجْلِ ظُلْمِكُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ إِنَّ: إِذْ بَدَلٌ مِنَ الْيَوْمِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ بِفَتْحِ أَنَّ عَلَى أَنَّهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَيْ: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ اشْتِرَاكُكُمْ فِي الْعَذَابِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ بِسَبَبِ الِاشْتِرَاكِ شَيْءٌ مِنَ الْعَذَابِ لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute