عَنِ الْحَقِّ لَقَالَ: إِذَا قَوْمُكَ عَنْهُ يَصُدُّونَ. قال الْفَرَّاءُ: هُمَا سَوَاءٌ مِنْهُ وَعَنْهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَنْ ضَمَّ فَمَعْنَاهُ يَعْدِلُونَ، وَمَنْ كَسَرَ فَمَعْنَاهُ يَضِجُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي: أآلهتنا خَيْرٌ أَمِ الْمَسِيحُ؟ قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: خَاصَمُوهُ وَقَالُوا: إِنْ كَانَ كُلُّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ فِي النَّارِ فَنَحْنُ نَرْضَى أَنْ تَكُونَ آلِهَتُنَا مَعَ عِيسَى وَعُزَيْرٍ وَالْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ قتادة: يعنون محمدا، أي: أآلهتنا خَيْرٌ أَمْ مُحَمَّدٌ؟ وَيُقَوِّي هَذَا قِرَاءَةُ ابْنِ مسعود:
أآلهتنا خَيْرٌ أَمْ هَذَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ بَيْنَ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَيَعْقُوبُ بِتَحْقِيقِهَا. مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أَيْ: مَا ضَرَبُوا لَكَ هَذَا الْمَثَلَ فِي عِيسَى إِلَّا لِيُجَادِلُوكَ عَلَى أَنَّ جَدَلًا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْعِلَّةِ، أَوْ مُجَادِلِينَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَرَأَ ابْنُ مِقْسَمٍ «جِدَالًا» بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي: شديد والخصومة كثير واللدد عَظِيمُو الْجَدَلِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ عِيسَى لَيْسَ بِرَبٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِهِ اخْتَصَّهُ بِنُبُوَّتِهِ فَقَالَ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بِمَا أَكْرَمْنَاهُ بِهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ: آيَةً وَعِبْرَةً لَهُمْ يَعْرِفُونَ بِهِ قُدْرَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَكُلَّ مَرِيضٍ وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ أَيْ: لَوْ نَشَاءُ أَهْلَكْنَاكُمْ وَجَعَلْنَا بَدَلًا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ، أَيْ: يَخْلُفُونَكُمْ فِيهَا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَمِنْ قَدْ تَكُونُ لِلْبَدَلِ كَقَوْلِهِ: لَجَعَلْنا مِنْكُمْ يُرِيدُ بَدَلًا مِنْكُمْ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَلَائِكَةً. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمَقْصُودُ الْآيَةِ: أَنَّا لَوْ نَشَاءُ لَأَسْكَنَّا الْمَلَائِكَةَ الْأَرْضَ وَلَيْسَ فِي إِسْكَانِنَا إِيَّاهُمُ السَّمَاءَ شَرَفٌ حَتَّى يُعْبَدُوا.
وَقِيلَ مَعْنَى «يَخْلُفُونَ» يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ:
إِنَّ الْمُرَادَ الْمَسِيحُ، وَإِنَّ خُرُوجَهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ قِيَامُ السَّاعَةِ لِكَوْنِهِ شَرْطًا مِنْ أَشْرَاطِهَا، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُنْزِلُهُ مِنَ السَّمَاءِ قبيل قيام السَّاعَةِ، كَمَا أَنَّ خُرُوجَ الدَّجَّالِ مِنْ أَعْلَامِ السَّاعَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمُرَادُ الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ مَجِيءِ السَّاعَةِ، وَبِهِ يُعْلَمُ وَقْتُهَا وَأَهْوَالُهَا وَأَحْوَالُهَا، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّ حُدُوثَ الْمَسِيحِ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَإِحْيَاءَهُ لِلْمَوْتَى دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَعِلْمٌ» بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ جَعَلَ الْمَسِيحَ عِلْمًا مُبَالَغَةً لِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْعِلْمِ بِحُصُولِهَا عِنْدَ نُزُولِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ، أَيْ: خُرُوجُهُ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِهَا، وَشَرْطٌ مِنْ شُرُوطِهَا، وَقَرَأَ أَبُو نَضْرَةَ وَعِكْرِمَةُ: «وَإِنَّهُ لَلْعَلَمُ» بِلَامَيْنِ مَعَ فَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ، أَيْ: لَلْعَلَامَةُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا قِيَامُ السَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها أَيْ: فَلَا تَشُكُّنَّ فِي وُقُوعِهَا وَلَا تُكَذِّبُنَ بِهَا، فَإِنَّهَا كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أَيِ: اتَّبَعُونِي فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَفَرَائِضِ اللَّهِ الَّتِي فَرَضَهَا عَلَيْكُمْ، هَذَا الَّذِي آمُرُكُمْ بِهِ وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ طَرِيقٌ قَيِّمٌ مُوَصِّلٌ إِلَى الْحَقِّ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِحَذْفِ الْيَاءِ مِنِ «اتَّبِعُونِ» وَصْلًا وَوَقْفًا، وَكَذَلِكَ قَرَءُوا بِحَذْفِهَا فِي الْحَالَيْنِ فِي «أَطِيعُونِ» وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا فِيهِمَا، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ نَافِعٍ بِحَذْفِهَا فِي الْوَصْلِ دُونَ الْوَقْفِ وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ أَيْ: لَا تَغْتَرُّوا بِوَسَاوِسِهِ وَشُبَهِهِ الَّتِي يُوقِعُهَا فِي قُلُوبِكُمْ فَيَمْنَعُكُمْ ذَلِكَ مِنَ اتِّبَاعِي، فَإِنَّ الَّذِي دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ. ثُمَّ عَلَّلَ نَهْيَهُمْ عَنْ أَنْ يَصُدَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَيَانِ عَدَاوَتِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute