أَخْلَاقٍ مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَفَكِّ الْأُسَارَى، وَقِرَى الْأَضْيَافِ، وَهَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلَةً مِنْ أَصْلِهَا، لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَمَ بِبُطْلَانِهَا. وَلَمَّا ذَكَرَ فَرِيقَ الْكَافِرِينَ أَتْبَعَهُمْ بِذِكْرِ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ، فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ ظَاهِرُ هَذَا الْعُمُومُ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ خُصُوصُ سَبَبِهَا فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ، وَقِيلَ: فِي نَاسٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ: فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَكِنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَخَصَّ سُبْحَانَهُ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ مَعَ انْدِرَاجِهِ تَحْتَ مُطْلَقِ الْإِيمَانِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِهِ وَعُلُوِّ مَكَانِهِ. وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَبَيْنَ خَبَرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ الْحَقَّ أَنَّهُ النَّاسِخُ لِمَا قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ رَبِّهِمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَى «كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» ، أَيِ: السَّيِّئَاتِ الَّتِي عَمِلُوهَا فِيمَا مَضَى، فَإِنَّهُ غَفَرَهَا لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أَيْ: شَأْنَهُمْ وَحَالَهُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: شَأْنَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ:
حَالَهُمْ، وَقِيلَ: أَمْرَهُمْ، والمعاني متقاربة. قال المبرّد: البال: الحال ها هنا. قِيلَ: وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ عَصَمَهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي فِي حَيَاتِهِمْ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى أَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِصْلَاحَ حَالِ دُنْيَاهُمْ مِنْ إِعْطَائِهِمُ الْمَالَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: إِنَّ الْمَعْنَى أَصْلَحَ نِيَّاتِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَإِنْ تُقْبِلِي بِالْوُدِّ أُقْبِلْ بِمِثْلِهِ ... وَإِنْ تُدْبِرِي أَذْهَبْ إِلَى حَالِ بَالِيَا
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا مَرَّ مِمَّا أَوْعَدَ بِهِ الْكُفَّارَ وَوَعَدَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَقِيلَ: أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: الْأَمْرُ ذَلِكَ بسبب أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ فَالْبَاطِلُ: الشِّرْكُ، وَالْحَقُّ: التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الْإِضْلَالَ لِأَعْمَالِ الْكَافِرِينَ بِسَبَبِ اتِّبَاعِهُمُ الْبَاطِلَ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَالْعَمَلِ بِمَعَاصِيهِ، وَذَلِكَ التَّكْفِيرُ لِسَيِّئَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِصْلَاحُ بِالِهِمْ بِسَبَبِ اتِّبَاعِهِمْ لِلْحَقِّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَعَمَلِ الطَّاعَاتِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الضَّرْبِ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ، أَيْ: أَحْوَالَ الْفَرِيقَيْنِ الْجَارِيَةَ مَجْرَى الْأَمْثَالِ فِي الْغَرَابَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: «كَذَلِكَ يَضْرِبُ» يُبَيِّنُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِضْلَالِ أَعْمَالِ الْكَافِرِينَ، يَعْنِي أَنَّ مَنْ كَانَ كَافِرًا أَضَلَّ اللَّهُ عَمَلَهُ، وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَفَّرَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ. فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ أَمَرَ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ عَهْدٍ من أهل الكتاب، وانتصاب «ضَرْبَ» عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ:
فَاضْرِبُوا الرِّقَابَ ضَرْبًا، وَخَصَّ الرِّقَابَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْقَتْلَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِقَطْعِهَا، وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ كَقَوْلِهِمْ: يَا نَفْسُ صَبْرًا، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: اقْصِدُوا ضَرْبَ الرِّقَابِ. وَقِيلَ:
إِنَّمَا خَصَّ ضَرْبَ الرِّقَابِ لِأَنَّ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ مِنَ الْغِلْظَةِ وَالشِّدَّةِ مَا لَيْسَ فِي نَفْسِ الْقَتْلِ، وَهِيَ حَزُّ الْعُنُقِ وَإِطَارَةُ الْعُضْوِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْبَدَنِ وَعُلُّوُّهُ وَأَحْسَنُ أَعْضَائِهِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أَيْ: بَالَغْتُمْ فِي قَتْلِهِمْ وَأَكْثَرْتُمُ الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَهَذِهِ غَايَةٌ لِلْأَمْرِ بِضَرْبِ الرِّقَابِ، لَا لِبَيَانِ غَايَةِ الْقَتْلِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّيْءِ الثخين، أي:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute