يذكر بِالْفِسْقِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَالِاسْمُ هُنَا بِمَعْنَى الذِّكْرِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ بِئْسَ أَنْ يُسَمَّى الرَّجُلُ كَافِرًا أَوْ زَانِيًا بَعْدَ إسلامه وتوبته. وقيل: أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَاللَّمْزِ وَالنَّبْذِ فَهُوَ فَاسِقٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ كَالْأَعْرَجِ وَالْأَحْدَبِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ عَلَيْهِ، فَجَوَّزَتْهُ الْأَئِمَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَى قَوْلِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ اه. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لِارْتِكَابِهِمْ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَامْتِنَاعِهِمْ مِنَ التَّوْبَةِ، فَظَلَمُوا مَنْ لَقَّبُوهُ، وَظُلْمِهِمْ أنفسهم بما لزمها مِنَ الْإِثْمِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ الظَّنُّ هُنَا: هُوَ مُجَرَّدُ التُّهْمَةِ الَّتِي لَا سَبَبَ لَهَا كَمَنْ يَتَّهِمُ غَيْرَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِاجْتِنَابِ الْكَثِيرِ لِيَفْحَصَ الْمُؤْمِنُ عَنْ كُلِّ ظَنٍّ يَظُنُّهُ حَتَّى يَعْلَمَ وَجْهَهُ لِأَنَّ مِنَ الظَّنِّ مَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّنِّ، كَالْقِيَاسِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَدَلَالَةِ الْعُمُومِ، وَلَكِنَّ هَذَا الظَّنَّ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَدْ قُوِّيَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ لِلْعَمَلِ بِهِ فَارْتَفَعَ عَنِ الشَّكِّ وَالتُّهْمَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ أَنْ يَظُنَّ بِأَهْلِ الْخَيْرِ سُوءًا، فَأَمَّا أَهْلُ السوء والفسوق قلنا أَنْ نَظُنَّ بِهِمْ مِثْلَ الَّذِي ظَهَرَ مِنْهُمْ. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: هُوَ أَنْ يَظُنَّ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ سُوءًا، وَلَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإِنْ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ الظَّنِّ وَأَبْدَاهُ أَثِمَ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ:
أَنَّ الظَّنَّ الْقَبِيحَ بِمَنْ ظَاهِرُهُ الْخَيْرُ لَا يَجُوزُ، وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي الظَّنِّ الْقَبِيحِ بِمَنْ ظَاهِرُهُ الْقَبِيحُ، وَجُمْلَةُ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِاجْتِنَابِ كَثِيرٍ مِنَ الظَّنِّ، وَهَذَا الْبَعْضُ هُوَ ظَنُّ السُّوءِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَالْإِثْمُ:
هُوَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الظَّانُّ مِنَ الْعُقُوبَةِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَقْيِيدِ هَذَا الظَّنِّ الْمَأْمُورِ بِاجْتِنَابِهِ بِظَنِّ السُّوءِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً «١» فَلَا يَدْخُلُ فِي الظَّنِّ الْمَأْمُورِ بِاجْتِنَابِهِ شَيْءٌ مِنَ الظَّنِّ الْمَأْمُورِ بِاتِّبَاعِهِ فِي مَسَائِلِ الدِّينِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَعَبَّدَ عِبَادَهُ بِاتِّبَاعِهِ، وَأَوْجَبَ الْعَمَلَ بِهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ إِلَّا بَعْضُ طَوَائِفِ الْمُبْتَدِعَةِ كِيَادًا لِلدِّينِ، وَشُذُوذًا عَنْ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ جَاءَ التَّعَبُّدُ بِالظَّنِّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ بَلْ فِي أَكْثَرِهَا. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِاجْتِنَابِ كَثِيرٍ مِنَ الظَّنِّ نَهَاهُمْ عَنِ التَّجَسُّسِ فَقَالَ: وَلا تَجَسَّسُوا التَّجَسُّسُ: الْبَحْثُ عَمَّا يَنْكَتِمُ عَنْكَ مِنْ عُيُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَعَوْرَاتِهِمْ، نَهَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنِ الْبَحْثِ عَنْ مَعَايِبِ النَّاسِ وَمَثَالِبِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ تَجَسَّسُوا بِالْجِيمِ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَابْنُ سِيرِينَ بِالْحَاءِ. قال الأخفش: ليس يبعد أحد هما مِنَ الْآخَرِ لِأَنَّ التَّجَسُّسَ بِالْجِيمِ: الْبَحْثُ عَمَّا يُكْتَمُ عَنْكَ، وَالتَّحَسُّسُ بِالْحَاءِ: طَلَبُ الْأَخْبَارِ وَالْبَحْثُ عَنْهَا. وَقِيلَ: إِنَّ التَّجَسُّسَ بِالْجِيمِ هُوَ الْبَحْثُ، وَمِنْهُ قِيلُ رَجُلٌ جَاسُوسٌ إِذَا كَانَ يَبْحَثُ عَنِ الْأُمُورِ، وَبِالْحَاءِ مَا أَدْرَكَهُ الْإِنْسَانُ بِبَعْضِ حَوَاسِّهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ بِالْحَاءِ فِيمَا يَطْلُبُهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ، وَبِالْجِيمِ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا لِغَيْرِهِ، قَالَهُ ثَعْلَبٌ. وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيْ:
لَا يَتَنَاوَلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِظَهْرِ الْغَيْبِ بِمَا يَسُوءُهُ، وَالْغِيبِةُ: أَنْ تَذْكُرَ الرَّجُلَ بِمَا يَكْرَهُهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبِةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أعلم، قال: ذكرك
(١) . الفتح: ١٢. [.....]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute