للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خبر مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ. ثُمَّ فَسَّرَ مَا أَجْمَلَهُ بِقَوْلِهِ: مَا أَتَى إِلَخْ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أُنْذِرُكُمْ إِنْذَارًا كَإِنْذَارِ مَنْ تَقَدَّمَنِي مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَنْذَرُوا قَوْمَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى أَتَواصَوْا بِهِ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ، أَيْ: هَلْ أوصى أوّلهم آخرهم بالتكذيب وتواطؤوا عليه بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب على التَّوَاصِي إِلَى مَا جَمَعَهُمْ مِنَ الطُّغْيَانِ، أَيْ: لَمْ يَتَوَاصَوْا بِذَلِكَ، بَلْ جَمَعَهُمُ الطُّغْيَانُ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْكُفْرِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ فَقَالَ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أَيْ: أَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْ جِدَالِهِمْ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْحَقِّ، فَقَدْ فَعَلْتَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ وَبَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ عِنْدَ اللَّهِ بَعْدَ هَذَا لِأَنَّكَ قَدْ أَدَّيْتَ مَا عَلَيْكَ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ أَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَتْرُكَ التَّذْكِيرَ وَالْمَوْعِظَةَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَقَالَ: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى عِظْ بِالْقُرْآنِ مَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِكَ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُهُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عِظْ كُفَّارَ مَكَّةَ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُؤْمِنُ. وَقِيلَ: ذَكِّرْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ وَأَيَّامِ اللَّهِ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّذْكِيرِ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ، وَجُمْلَةُ وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا لِأَنَّ كَوْنَ خَلْقِهِمْ لِمُجَرَّدِ الْعِبَادَةِ مِمَّا يُنَشِّطُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّذْكِيرِ، وَيُنَشِّطُهُمْ لِلْإِجَابَةِ. قِيلَ: هَذَا خَاصٌّ فِي من سبق في عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَعْبُدُهُ، فَهُوَ عُمُومٌ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا خَاصٌّ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ، يَعْنِي مَنْ أُهِّلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَالضَّحَّاكِ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْآيَةُ دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ بِالْقَطْعِ، لِأَنَّ الْمَجَانِينَ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْعِبَادَةِ وَلَا أَرَادَهَا مِنْهُمْ، وَقَدْ قَالَ:

وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ «١» وَمَنْ خُلِقَ لِجَهَنَّمَ لَا يَكُونُ مِمَّنْ خُلِقَ لِلْعِبَادَةِ. فَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الْمَعْنَى: إِلَّا لِيَعْرِفُونِي. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ لَمَا عُرِفَ وُجُودُهُ وَتَوْحِيدُهُ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمَعْنَى إِلَّا لِآمُرَهُمْ وَأَنْهَاهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ «٢» وَاخْتَارَ هَذَا الزَّجَّاجُ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ:

هُوَ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، فَخَلَقَ السُّعَدَاءَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِلْعِبَادَةِ، وَخَلَقَ الْأَشْقِيَاءَ لِلْمَعْصِيَةِ.

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى إِلَّا لِيُوَحِّدُونِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ دُونَ النِّعْمَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «٣» وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِلَّا لِيَخْضَعُوا لِي وَيَتَذَلَّلُوا، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي اللُّغَةِ: الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ خَاضِعٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ، مُتَذَلِّلٌ لِمَشِيئَتِهِ، مُنْقَادٌ لِمَا قَدَّرَهُ عَلَيْهِ. خَلَقَهُمْ عَلَى مَا أَرَادَ، وَرَزَقَهُمْ كَمَا قَضَى، لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا. ووجه تقديم الجن على الإنس ها هنا تَقَدُّمُ وَجُودِهِمْ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِيهَا بَيَانُ اسْتِغْنَائِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ لَا يريد منهم منفعة كما تريده السادة


(١) . الأعراف: ١٧٩.
(٢) . التوبة: ٣١. [.....]
(٣) . لقمان: ٣٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>