للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتُهُ وَزَمَانُهُ مَنْ أَشْرَاطِ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيِ: انْشَقَّ الْقَمَرُ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَ قَوْلِ عَطَاءٍ: أَنَّهُ الِانْشِقَاقُ الْكَائِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى وَانْشَقَّ الْقَمَرُ: وَضَحَ الْأَمْرُ وَظَهَرَ، وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ بِالْقَمَرِ الْمَثَلَ فِيمَا وَضَحَ. وَقِيلَ: انْشِقَاقُ الْقَمَرِ هُوَ انْشِقَاقُ الظُّلْمَةِ عَنْهُ، وَطُلُوعُهُ فِي أَثْنَائِهَا، كَمَا يُسَمَّى الصُّبْحُ فَلَقًا لِانْفِلَاقِ الظُّلْمَةِ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَدْ كَانَ الِانْشِقَاقُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ. قَالَ: وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ قَدْ وَقَعَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ كَانَ إِحْدَى الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ. قَالَ الزَّجَّاجُ، زَعَمَ قَوْمٌ عَنَدُوا عَنِ الْقَصْدِ وَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ تَأْوِيلَهُ: أَنَّ الْقَمَرَ يَنْشَقُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْأَمْرُ بَيِّنٌ فِي اللَّفْظِ وَإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ فِي الدُّنْيَا لَا فِي الْقِيَامَةِ. انْتَهَى. وَلَمْ يَأْتِ مَنْ خَالَفَ الْجُمْهُورَ وَقَالَ: إِنَّ الِانْشِقَاقَ سَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا بِمُجَرَّدِ اسْتِبْعَادٍ، فَقَالَ: لِأَنَّهُ لَوِ انْشَقَّ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا رَآهُ لِأَنَّهُ آيَةٌ، وَالنَّاسُ فِي الْآيَاتِ سَوَاءٌ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ لَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا عَادَةً، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ نُقِلَ إِلَيْنَا بِطْرِيقِ التَّوَاتُرِ، وَهَذَا بِمُجَرَّدِهِ يَدْفَعُ الِاسْتِبْعَادَ وَيَضْرِبُ بِهِ فِي وَجْهِ قَائِلِهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ انْشَقَّ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِأَنَّهُ سَيَنْشَقُّ، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَنَّهُ قَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ النُّبُوَّةِ، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى شُذُوذِ مَنْ شَذَّ، وَاسْتِبْعَادِ مَنِ اسْتَبْعَدَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ بَعْضِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا انْشَقَّ الْقَمَرُ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: سَحَرَنَا مُحَمَّدٌ، فَقَالَ اللَّهُ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يَعْنِي انْشِقَاقَ الْقَمَرِ يُعْرِضُوا عَنِ التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ بِهَا، وَيَقُولُوا: سِحْرٌ قَوِيٌّ شَدِيدٌ يَعْلُو كُلَّ سِحْرٍ، مِنْ قَوْلِهِمُ: اسْتَمَرَّ الشَّيْءُ إِذَا قَوِيَ وَاسْتَحْكَمَ، وَقَدْ قَالَ بِأَنَّ مَعْنَى مُسْتَمِرٍّ: قَوِيٌّ شَدِيدٌ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ إِمْرَارِ الْحَبْلِ، وَهُوَ شِدَّةُ فَتْلِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَقِيطٍ:

حَتَّى استمرّت على شزر مريرته ... صدق العزيمة لا رتّا وَلَا ضَرَعًا «١»

وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أَيْ: ذَاهِبٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَّ الشَّيْءُ وَاسْتَمَرَّ إِذَا ذَهَبَ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ ومجاهد وغير هما، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. وَقِيلَ: مَعْنَى مُسْتَمِرٌّ: دَائِمٌ مُطَّرِدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «٢» :

أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا لَيَالٍ وأعصر ... وليس على شيء قويم بمستمر


(١) . «الرتة» : ردّة قبيحة في اللسان من العيب. «الضّرع» اللين الذليل. [.....]
(٢) . هو امرؤ القيس.

<<  <  ج: ص:  >  >>