لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ السَّابِقِينَ وَمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، ذَكَرَ أَحْوَالَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَقَالَ:
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ قَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ إِعْرَابِ هَذَا الْكَلَامِ، وَمَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ مِنَ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، وَهِيَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَهُوَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَقَوْلُهُ: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ خَبَرٌ ثَانٍ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمْ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَالسِّدْرُ: نَوْعٌ مِنَ الشَّجَرِ، وَالْمَخْضُودُ: الَّذِي خُضِّدَ شَوْكُهُ، أَيْ: قُطِّعَ فَلَا شَوْكَ فِيهِ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ يَصِفُ الْجَنَّةَ:
إِنَّ الْحَدَائِقَ فِي الْجِنَانِ ظَلِيلَةٌ ... فِيهَا الْكَوَاعِبُ سِدْرُهَا مَخْضُودُ
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِنَّ السِّدْرَ الْمَخْضُودَ: الْمُوقَرُ حَمْلًا وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الطَّلْحَ فِي الْآيَةِ هُوَ شَجَرُ الْمَوْزِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَيْسَ هُوَ شَجَرُ الْمَوْزِ، وَلَكِنَّهُ الطَّلْحُ الْمَعْرُوفُ، وَهُوَ أَعْظَمُ أَشْجَارِ الْعَرَبِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ شَجَرٌ عِظَامٌ لَهَا شَوْكٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الطَّلْحُ هُوَ أمُّ غِيلَانَ. وَلَهَا نَوْرٌ طيّب، فخوطبوا ووعدوا بما يُحِبُّونَ، إِلَّا أَنَّ فَضْلَهُ عَلَى مَا فِي الدُّنْيَا كَفَضْلِ سَائِرِ مَا فِي الْجَنَّةِ عَلَى مَا فِي الدُّنْيَا. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ وَقَدْ أُزِيلَ شَوْكُهُ. قَالَ السُّدِّيُّ: طَلْحُ الْجَنَّةِ يُشْبِهُ طَلْحَ الدُّنْيَا، لَكِنْ لَهُ ثَمَرٌ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَالْمَنْضُودُ: الْمُتَرَاكِبُ الَّذِي قَدْ نُضِّدَ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ بِالْحَمْلِ لَيْسَ لَهُ سُوقٌ بَارِزَةٌ.
قَالَ مَسْرُوقٌ: أَشْجَارُ الْجَنَّةِ مِنْ عُرُوقِهَا إِلَى أَفْنَانِهَا نَضِيدٌ، ثَمَرٌ كُلُّهُ، كُلَّمَا أُخِذَتْ ثَمَرَةٌ عَادَ مَكَانُهَا أَحْسَنَ مِنْهَا وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أَيْ: دَائِمٍ بَاقٍ لَا يَزُولُ وَلَا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ شَيْءٍ طَوِيلٍ لَا يَنْقَطِعُ مَمْدُودٌ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ «١» وَالْجَنَّةُ كُلُّهَا ظِلٌّ لَا شَمْسَ مَعَهُ.
قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: يَعْنِي ظِلَّ الْعَرْشِ، وَمِنَ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ لِلْمَمْدُودِ فِي الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ قَوْلُ لَبِيَدٍ:
غَلَبَ الْعَزَاءَ وَكُنْتُ غَيْرَ مُغَلَّبٍ ... دَهْرٌ طَوِيلٌ دَائِمٌ مَمْدُودُ
وَماءٍ مَسْكُوبٍ أي: منصبّ يجري بالليل والنهار أينما شاؤوا لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ، فَهُوَ مَسْكُوبٌ يَسْكُبُهُ اللَّهُ فِي مَجَارِيهِ، وَأَصْلُ السَّكْبِ: الصَّبُّ، يُقَالُ سَكَبَهُ سَكْبًا، أَيْ: صَبَّهُ وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ أَيْ: أَلْوَانٍ مُتَنَوِّعَةٍ مُتَكَثِّرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ كَمَا تَنْقَطِعُ فَوَاكِهُ الدُّنْيَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَلا مَمْنُوعَةٍ أَيْ: لَا تَمْتَنِعُ عَلَى مَنْ أَرَادَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ، بَلْ هِيَ مُعَدَّةٌ لِمَنْ أَرَادَهَا لَا يحول بينه
(١) . الفرقان: ٤٥.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute