الْمَحْفُوظُ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ كِتَابٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِيهِمَا ذُكِرَ الْقُرْآنُ وَمَنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الزَّبُورُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ الْمُصْحَفُ الَّذِي فِي أَيْدِينَا لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ، أَيْ: لَا يَمَسُّ الْكِتَابَ الْمَكْنُونَ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّسُلُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَمَعْنَى «لَا يَمَسُّهُ» الْمَسَّ الْحَقِيقِيَّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا يَنْزِلُ بِهِ إلا المطهرون، وقيل: معناه: لا يقرؤه، وعلى كون المراد الكتاب الْمَكْنُونِ هُوَ الْقُرْآنُ، فَقِيلَ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ. كَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
الْمُطَهَّرُونَ مِنَ الشِّرْكِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْمُطَهَّرُونَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَغَيْرُهُ:
مَعْنَى لَا يَمَسُّهُ: لَا يَقْرَؤُهُ، إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ أَيْ: إِلَّا الْمُوَحِّدُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَجِدُ نَفْعَهُ وَبَرَكَتَهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: لَا يَعْرِفُ تَفْسِيرَهُ وَتَأْوِيلَهُ إِلَّا مَنْ طَهَّرَهُ اللَّهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى مَنْعِ الْمُحْدِثِ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَسَعْدُ بْنُ أبي وقاص وسعيد ابن زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَالزَّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحَدِثِ مَسُّهُ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَا هُوَ الْحَقُّ فِي هَذَا فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمُطَهَّرُونَ بِتَخْفِيفِ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ مَفْتُوحَةً اسْمُ مَفْعُولٍ. وَقَرَأَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ بِكَسْرِ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ، أَيِ: الْمُطَهِّرُونَ أَنْفُسَهُمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عُمَرَ، وفي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا عِيسَى بْنُ عُمَرَ، بِسُكُونِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ خَفِيفَةً، اسْمَ مَفْعُولٍ مِنْ أَطْهَرَ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْفٍ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، وَأَصْلُهُ الْمُتَطَهِّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ، وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ، فَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ أخرى للقرآن، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالنَّصْبُ عَلَى الْحَالِ أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَنْعُوتِ بِالنُّعُوتِ السَّابِقَةِ، وَالْمُدْهِنُ وَالْمُدَاهِنُ الْمُنَافِقُ.
كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ وَقَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ: هُوَ الْكَذَّابُ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَقَتَادَةُ: «مُدْهِنُونَ» :
كَافِرُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: «مُدْهِنُونَ» : مُعْرِضُونَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُمَالِئُونَ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَالَ أَبُو كَيْسَانَ: الْمُدْهِنُ: الَّذِي لَا يَعْقِلُ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُهُ بِالْعِلَلِ.
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ أَصْلَ الْمُدْهِنِ الَّذِي ظَاهِرُهُ خِلَافُ بَاطِنِهِ كَأَنَّهُ يُشْبِهُ الدُّهْنَ فِي سُهُولَتِهِ. قَالَ الْمُؤَرِّجُ: الْمُدْهِنُ:
الْمُنَافِقُ الَّذِي يَلِينُ جانبه لِيُخْفِيَ كُفْرَهُ، وَالْإِدْهَانُ وَالْمُدَاهَنَةُ: التَّكْذِيبُ وَالْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، وَأَصْلُهُ اللِّينُ، وَأَنْ يُسِرَّ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ، وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: «مُدْهِنُونَ» أَيْ: مُتَهَاوِنُونَ بِهِ، كَمَنْ يُدْهِنُ فِي الْأَمْرِ، أَيْ:
يَلِينُ جَانِبُهُ وَلَا يَتَصَلَّبُ فِيهِ تَهَاوُنًا بِهِ، انْتَهَى. قَالَ الرَّاغِبُ: وَالْإِدْهَانُ فِي الْأَصْلِ مِثْلُ التَّدْهِينِ لَكِنْ جعل عبارة عن المدارة وَالْمُلَايَنَةِ، وَتَرْكِ الْجِدِّ: كَمَا جُعِلَ التَّقْرِيدُ، وَهُوَ نَزْعُ الْقُرَادِ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ قَوْلُ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ:
الْحَزْمُ والقوّة خير من ال ... إدهان والفهّة والهاع «١»
(١) . «الفهة» : العي. «الهاع» : سوء الحرص مع ضعف. [.....]