للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ: هُوَ مَا يَعُمُّ التَّسْبِيحَ بِلِسَانِ الْمَقَالِ كَتَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَبِلِسَانِ الْحَالِ كَتَسْبِيحِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ. وَقَدْ أَنْكَرَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ تَسْبِيحُ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ هُوَ تَسْبِيحُ الدَّلَالَةِ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا تَسْبِيحَ الدَّلَالَةِ وَظُهُورِ آثَارِ الصَّنْعَةِ لَكَانَتْ مَفْهُومَةً، فَلِمَ قَالَ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ تَسْبِيحُ مَقَالٍ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ «١» فَلَوْ كَانَ هَذَا التَّسْبِيحُ مِنَ الْجِبَالِ تَسْبِيحَ دَلَالَةٍ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ دَاوُدَ فَائِدَةٌ. وَفِعْلُ التَّسْبِيحِ قَدْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ تَارَةً، كَمَا فِي قوله: وَسَبِّحُوهُ وَبِاللَّامِ أُخْرَى كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ لِأَنَّ مَعْنَى سَبَّحْتُهُ:

بَعَّدْتُهُ عَنِ السُّوءِ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ بِاللَّامِ فَهِيَ إِمَّا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا فِي شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ، أَوْ هِيَ لِلتَّعْلِيلِ، أَيِ: افْعَلِ التَّسْبِيحَ لِأَجْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ خَالِصًا لَهُ، وَجَاءَ هَذَا الْفِعْلُ فِي بَعْضِ الْفَوَاتِحِ مَاضِيًا كَهَذِهِ الْفَاتِحَةِ، وَفِي بَعْضِهَا مُضَارِعًا، وَفِي بَعْضِهَا أَمْرًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُسَبِّحَةٌ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، لَا يَخْتَصُّ تَسْبِيحُهَا بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، بَلْ هِيَ مُسَبِّحَةٌ أَبَدًا فِي الْمَاضِي، وَسَتَكُونُ مُسَبِّحَةً أَبَدًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الْعَزِيزُ أَيِ:

الْقَادِرُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُنَازِعُهُ أَحَدٌ وَلَا يُمَانِعُهُ مُمَانِعٌ كَائِنًا مَا كَانَ الْحَكِيمُ الَّذِي يَفْعَلُ أَفْعَالَ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ وَحْدَهُ وَلَا يَنْفُذُ غَيْرُ تَصَرُّفِهِ وَأَمْرِهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ خَزَائِنَ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَسَائِرِ الْأَرْزَاقِ يُحْيِي وَيُمِيتُ الْفِعْلَانِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَهُ، أَوْ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ بَعْضِ أَحْكَامِ الْمُلْكِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُحْيِي فِي الدُّنْيَا وَيُمِيتُ الْأَحْيَاءَ، وَقِيلَ: يُحْيِي النُّطَفَ وَهِيَ مُوَاتٌ وَيُمِيتُ الْأَحْيَاءَ، وَقِيلَ: يُحْيِي الْأَمْوَاتَ لِلْبَعْثِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ كَائِنًا مَا كَانَ هُوَ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، أَيِ:

الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ وَالظَّاهِرُ الْعَالِي الْغَالِبُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، أَوِ الظَّاهِرُ وَجُودُهُ بِالْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ وَالْباطِنُ أَيِ: الْعَالِمُ بِمَا بَطَنَ، مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ يُبْطِنُ أَمْرَ فُلَانٍ، أَيْ: يَعْلَمُ دَاخِلَةَ أَمْرِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُحْتَجِبُ عَنِ الْأَبْصَارِ وَالْعُقُولِ، وَقَدْ فَسَّرَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْأَرْبَعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَى ذَلِكَ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ هذا بيان لبعض ملكه للسماوات وَالْأَرْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي غَيْرِهَا مُسْتَوْفًى يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أَيْ: يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ وَما يَخْرُجُ مِنْها مِنْ نَبَاتٍ وَغَيْرِهِ وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ وَما يَعْرُجُ فِيها أَيْ: يَصْعَدُ إِلَيْهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَعْمَالِ الْعِبَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ سَبَأٍ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ أَيْ: بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَعِلْمِهِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِلْإِحَاطَةِ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ أَيْنَمَا دَارُوا فِي الْأَرْضِ مِنْ بَرٍّ وَبَحْرٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْءٌ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هَذَا التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ لَا إِلَى غَيْرِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تُرْجَعُ» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وفي مواضع


(١) . الأنبياء: ٧٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>