للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ خَافِيَةٌ، فَهُوَ مُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أَيْ:

تَرَكُوا أَمْرَهُ، أَوْ مَا قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، أَوْ لَمْ يَخَافُوهُ، أَوْ جَمِيعُ ذَلِكَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أَيْ: جَعَلَهُمْ نَاسِينَ لَهَا بِسَبَبِ نِسْيَانِهِمْ لَهُ، فَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تُنْجِيهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَمْ يَكُفُّوا عَنِ الْمَعَاصِي الَّتِي تُوقِعُهُمْ فِيهِ، فَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَنْسَاهُمْ حُظُوظَ أَنْفُسِهِمْ. قَالَ سُفْيَانُ: نَسُوا حَقَّ اللَّهِ فَأَنْسَاهُمْ حَقَّ أَنْفُسِهِمْ، وَقِيلَ: نسوا لله فِي الرَّخَاءِ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ فِي الشَّدَائِدِ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَيِ: الْكَامِلُونَ فِي الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ فِي الْفَضْلِ وَالرُّتْبَةِ، وَالْمُرَادُ الْفَرِيقَانِ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَدْخُلُ فِي فَرِيقِ أَهْلِ النَّارِ مَنْ نَسِيَ اللَّهَ مِنْهُمْ دُخُولًا أَوَلِيًّا، وَيَدْخُلُ فِي فَرِيقِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ اتَّقَوْا دُخُولًا أَوَلِيًّا لِأَنَّ السِّيَاقَ فِيهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَفِي سُورَةِ السَّجْدَةِ، وَفِي سُورَةِ ص. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ بَعْدَ نَفْيِ التَّسَاوِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ:

أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ أَيِ: الظَّافِرُونَ بِكُلِّ مَطْلُوبٍ، النَّاجُونَ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ تَابُوتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلَ، وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ، وَإِخْوَانُهُمْ بَنُو النَّضِيرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْهُ: أَنَّ رَهْطًا مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولٍ، وَوَدِيعَةُ بْنُ مَالِكٍ، وَسُوِيدٌ وَدَاعِسٌ بُعِثُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ أَنِ اثْبَتُوا وَتَمَنَّعُوا فَإِنَّنَا لَا نُسَلِّمُكُمْ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ، فَتَرَبَّصُوا ذَلِكَ مِنْ نَصْرِهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يُجْلِيَهُمْ وَيَكُفَّ عَنْ دِمَائِهِمْ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ ما حملت الإبل إلا الحلقة «١» ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَهْدِمُ بَيْتَهُ فَيَضَعُهُ عَلَى ظهر بعيره فَيَنْطَلِقُ بِهِ، فَخَرَجُوا إِلَى خَيْبَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ إِلَى الشَّامِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى قَالَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ، وَأَنَّ امْرَأَةً كَانَ لَهَا إِخْوَةٌ، فَعَرَضَ لَهَا شَيْءٌ فَأَتَوْهُ بِهَا فَزَيَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَجَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ:

اقْتُلْهَا فَإِنَّهُمْ إِنْ ظَهَرُوا عَلَيْكَ افتضحت فقتلها ودفنها، فجاؤوه فَأَخَذُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَمْشُونَ إِذْ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: إِنِّي أَنَا الَّذِي زَيَّنْتُ لك فاسجد لي سجدة أنجيك، فَسَجَدَ لَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ الْآيَةَ. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ تَصْدُقُ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بالآية. وأخرجوه بِنَحْوِهِ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَ ابن مردويه عن ابن مسعود


(١) . «الحلقة» : السلاح، وقيل: الدروع خاصة.

<<  <  ج: ص:  >  >>