للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ فتنة فقال: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ

أَيْ: بَلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ وَمِحْنَةٌ، يَحْمِلُونَكُمْ عَلَى كَسْبِ الْحَرَامِ وَمَنْعِ حَقِّ اللَّهِ، فلا تطيعوهم في معصية الله اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ

لِمَنْ آثَرَ طَاعَةَ اللَّهِ وَتَرْكَ مَعْصِيَتِهِ فِي مَحَبَّةِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ فَقَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أَيْ: مَا أَطَقْتُمْ، وَبَلَغَ إِلَيْهِ جُهْدُكُمْ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «١» وَمِنْهُمْ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ فِي قَوْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ «٢» وَمَعْنَى وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا أَيِ: اسْمَعُوا مَا تُؤْمَرُونَ به، وأطيعوا الأوامر. قال مقاتل: «اسمعوا» أي: اصغوا إلى ما ينزل عليكم وأطيعوا لرسوله فيما يأمركم وينهاكم.

وقيل: معنى «اسْمَعُوا» : اقْبَلُوا مَا تَسْمَعُونَ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي مُجَرَّدِ السَّمَاعِ وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ أَيْ: أَنْفِقُوا مِنْ أَمْوَالِكُمُ الَّتِي رَزَقَكُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَلَا تَبْخَلُوا بِهَا، وَقَوْلُهُ: خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ منتصب بفعل دَلَّ عَلَيْهِ أَنْفِقُوا، كَأَنَّهُ قَالَ: ائْتُوا فِي الْإِنْفَاقِ خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ، أَوْ قَدِّمُوا خَيْرًا لَهَا، كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: هُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِنْفَاقًا خَيْرًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ خَبَرٌ لَكَانَ الْمُقَدَّرَةِ، أَيْ: يَكُنِ الْإِنْفَاقُ خَيْرًا لَكُمْ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ لأنفقوا، أي: فأنفقوا، أَيْ: فَأَنْفِقُوا خَيْرًا. وَالظَّاهِرُ فِي الْآيَةِ الْإِنْفَاقُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ زَكَاةُ الْفَرِيضَةِ، وَقِيلَ: النَّافِلَةُ، وَقِيلَ: النَّفَقَةُ فِي الْجِهَادِ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيْ: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ، فَيَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ، وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّافِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، الْفَائِزُونَ بِكُلِّ مَطْلَبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَتَصْرِفُونَ أَمْوَالَكُمْ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ بِإِخْلَاصِ نِيَّةٍ وطيب نفس يُضاعِفْهُ لَكُمْ فيجعل الحسنة بعشر أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَاخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي قِرَاءَتِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْحَدِيدِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ أَيْ: يَضُمَّ لَكُمْ إِلَى تِلْكَ الْمُضَاعَفَةِ غُفْرَانَ ذُنُوبِكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ يُثِيبُ مَنْ أَطَاعَهُ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، وَلَا يُعَاجِلُ مَنْ عَصَاهُ بِالْعُقُوبَةِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَيْ: مَا غَابَ وَمَا حَضَرَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيِ: الْغَالِبُ الْقَاهِرُ، ذُو الْحِكْمَةِ الْبَاهِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْحَكِيمُ: هُوَ الْمُحْكِمُ لِخَلْقِ الْأَشْيَاءِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَأَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ أَنْ يَدَعُوهُمْ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَوُا النَّاسَ قَدْ فَقِهُوا فِي الدِّينِ هَمُّوا أَنْ يُعَاقِبُوهُمْ، فَنَزَلَتْ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وابن ماجة،


(١) . آل عمران: ١٠٢.
(٢) . آل عمران: ١٠٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>