للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَيْ: بَعْدَ إِعْطَائِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ عَلَى مَعْنَاهُ غَيْرَ مَوْضُوعٍ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَحُثُّ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ عَلَى بَذْلِ نَفْسِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَفِي جَعْلِ هَذَا قَرِينًا لِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي التَّصَدُّقِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَسَدِّ فَاقَتِهِمْ، وَحَثِّ النَّفْسِ وَالنَّاسِ عَلَى ذَلِكَ مَا يَدُلُّ أَبْلَغَ دَلَالَةٍ، وَيُفِيدُ أَكْمَلَ فَائِدَةٍ، عَلَى أَنَّ مَنْعَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْجَرَائِمِ وَأَشَدِّ الْمَآثِمِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ أَيْ: لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْآخِرَةِ قَرِيبٌ يَنْفَعُهُ، أَوْ يَشْفَعُ لَهُ لِأَنَّهُ يَوْمُ يَفِرُّ فِيهِ الْقَرِيبُ مِنْ قَرِيبِهِ، وَيَهْرُبُ عِنْدَهُ الْحَبِيبُ مِنْ حَبِيبِهِ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ أَيْ: وَلَيْسَ لَهُ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ إِلَّا مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ، وَمَا يَنْغَسِلُ مِنْ أَبْدَانِهِمْ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، وَغِسْلِينٌ: فِعِلِينٌ، مِنَ الْغَسْلِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هُوَ شَجَرٌ يَأْكُلُهُ أَهْلُ النَّارِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ شَرُّ الطَّعَامِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا يَعْلَمُ مَا هُوَ وَلَا مَا الزَّقُّومَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّرِيعُ هُوَ الْغِسْلِينُ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى فَلَيْسَ لَهُ اليوم ها هنا حميم مِنْ غِسْلِينٍ عَلَى أَنَّ الْحَمِيمَ هُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ وَلا طَعامٌ أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ يَأْكُلُونَهُ. وَلَا مُلْجِئَ لِهَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَجُمْلَةُ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ صِفَةٌ لِغِسِلِينٍ، وَالْمُرَادُ أَصْحَابُ الْخَطَايَا وَأَرْبَابُ الذُّنُوبِ. قال الكلبي: المراد: الشرك. قرأ الجمهور: الْخاطِؤُنَ مهموزا، وهو اسم فاعل من خطىء إِذَا فَعَلَ غَيْرَ الصَّوَابِ مُتَعَمِّدًا، وَالْمُخْطِئُ: مَنْ يَفْعَلُهُ غَيْرَ مُتَعَمَّدٍ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَالْحَسَنُ «الْخَاطِيُونَ» بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ بَدَلَ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِضَمِّ الطَّاءِ بِدُونِ هَمْزَةٍ. فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ- وَما لَا تُبْصِرُونَ هَذَا رَدٌّ لِكَلَامِ الْمُشْرِكِينَ كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ، وَ «لَا» زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأُقْسِمُ بِمَا تُشَاهِدُونَهُ وَمَا لَا تُشَاهِدُونَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: أَقْسَمَ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مَا يُبْصَرُ مِنْهَا وَمَا لَا يُبْصَرُ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقِيلَ: إِنَّ «لَا» لَيْسَتْ زَائِدَةً، بَلْ هِيَ لِنَفْيِ الْقَسَمِ، أَيْ: لَا أَحْتَاجُ إِلَى قَسَمٍ لِوُضُوحِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ أَيْ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَتِلَاوَةُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، عَلَى أَنَّ المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أَوْ أَنَّهُ لَقَوْلٌ يُبَلِّغُهُ رَسُولٌ كَرِيمٌ.

قَالَ الحسن والكلبي ومقاتل: يريد به جبريل، دليله قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ- ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ «١» وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْقُرْآنُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مِنْ قَوْلِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ التِّلَاوَةِ أَوِ التَّبْلِيغِ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ كَمَا تَزْعُمُونَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَصْنَافِ الشِّعْرِ وَلَا مُشَابِهَ لها قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ أَيْ: إِيمَانًا قَلِيلًا تُؤْمِنُونَ، وَتَصْدِيقًا يَسِيرًا تُصَدِّقُونَ، وَ «مَا» زَائِدَةٌ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ كَمَا تَزْعُمُونَ، فَإِنَّ الْكِهَانَةَ أَمْرٌ آخَرُ لَا جَامِعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ أَيْ: تَذَكُّرًا قَلِيلًا، أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا تَتَذَكَّرُونَ، وَ «مَا» زَائِدَةٌ، وَالْقِلَّةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ: لَا تُؤْمِنُونَ وَلَا تَتَذَكَّرُونَ أَصْلًا تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هو تنزيل. وقرأ أبو السّمّال بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: نُزِّلَ تنزيلا،


(١) . التكوير: ١٩- ٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>