للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقِيلَ: اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ لِتُوَفِّرَ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَبْعُدَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: دُمْ عَلَى ذِكْرِ رَبِّكَ لَيْلًا وَنَهَارًا وَاسْتَكْثِرْ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى صَلِّ لِرَبِّكَ. وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أَيِ: انْقَطِعْ إِلَيْهِ انْقِطَاعًا بِالِاشْتِغَالِ بِعِبَادَتِهِ، وَالتَّبَتُّلُ: الِانْقِطَاعُ، يُقَالُ: بَتَّلْتُ الشَّيْءَ: أَيْ قَطَعْتُهُ وَمَيَّزْتُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَصَدَقَةٌ بَتْلَةٌ، أَيْ: مُنْقَطِعَةٌ مِنْ مَالِ صَاحِبِهَا، وَيُقَالُ لِلرَّاهِبِ: مُتَبَتِّلٌ لِانْقِطَاعِهِ عَنِ النَّاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «١» :

تُضِيءُ الظَّلَامَ بِالْعَشَاءِ كَأَنَّهَا ... مَنَارَةُ مَمْسَى رَاهِبٍ «٢» مُتَبَتِّلٍ.

وَوَضَعَ تَبْتِيلًا مَكَانَ تَبَتُّلًا لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالتَّبَتُّلُ: رَفْضُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَالْتِمَاسُ مَا عِنْدَ اللَّهِ. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَامِرٍ بِجَرِّ «رَبِّ» عَلَى النَّعْتِ «لِرَبِّكَ» أَوِ الْبَدَلِ مِنْهُ، أَوِ الْبَيَانِ لَهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِرَفْعِهِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرَهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ رَبُّ الْمَشْرِقِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِنَصْبِهِ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مُفْرَدَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ «الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ» عَلَى الْجَمْعِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَفْسِيرَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَالْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ، وَالْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أَيْ: إِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بالربوبية فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا، أَيْ: قَائِمًا بِأُمُورِكَ، وَعَوِّلْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِهَا، وَقِيلَ: كَفِيلًا بِمَا وَعَدَكَ مِنَ الْجَزَاءِ وَالنَّصْرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ مِنَ الْأَذَى وَالسَّبِّ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَلَا تَجْزَعْ مِنْ ذَلِكَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا أَيْ: لَا تَتَعَرَّضْ لَهُمْ، وَلَا تَشْتَغِلْ بِمُكَافَأَتِهِمْ، وَقِيلَ: الْهَجْرُ الْجَمِيلُ: الَّذِي لَا جَزَعَ فِيهِ، وَهَذَا كَانَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أَيْ: دَعْنِي وَإِيَّاهُمْ، وَلَا تَهْتَمَّ بِهِمْ، فَإِنِّي أَكْفِيكَ أَمْرَهُمْ، وَأَنْتَقِمُ لَكَ مِنْهُمْ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُطْعِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ عَشَرَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: هُمْ بَنُو الْمُغِيرَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَخْبَرْتُ أَنَّهُمِ اثْنَا عَشَرَ. أُولِي النَّعْمَةِ أَيْ: أَرْبَابُ الْغِنَى وَالسَّعَةِ وَالتَّرَفُّهِ وَاللَّذَّةِ فِي الدُّنْيَا وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أَيْ: تَمْهِيلًا قَلَيِلًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى: أَمْهِلْهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ، وَقِيلَ: إِلَى نُزُولِ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا بِهِمْ كَيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَمَا بَعْدَهُ، فَإِنَّهُ وَعِيدٌ لَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَالْأَنْكَالُ: جَمْعُ نَكْلٍ، وَهُوَ الْقَيْدُ، كَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا، وقال الكلبي: الأنكال: والأغلال، وَالْأَوَّلُ أَعْرَفُ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ:

أَتَوْكَ فَقُطِّعَتْ أَنْكَالُهُمْ «٣» ... وَقَدْ كُنَّ قَبْلَكَ لَا تُقْطَعُ

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ أَنْوَاعُ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ. وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: هِيَ قُيُودٌ لَا تحلّ وَجَحِيماً أي: نارا مُؤَجَّجَةٌ وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ أَيْ: لَا يَسُوغُ فِي الْحَلْقِ، بَلْ يَنْشُبُ فِيهِ، فَلَا يَنْزِلُ ولا يخرج.


(١) . هو امرؤ القيس.
(٢) . «ممسى راهب» : أي إمساؤه.
(٣) . في تفسير القرطبي (١٩/ ٤٦) : دعاك فقطّعت أنكاله.

<<  <  ج: ص:  >  >>