عَفْوٌ حَقِيقِيٌّ، أَيْ: تَرْكٌ لِمَا يُسْتَحَقُّ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُشَاكَلَةٌ، أَوْ يَطِيبَ فِي تَوْفِيَةِ الْمُهْرِ قَبْلَ أَنْ يَسُوقَهُ الزَّوْجُ. قَوْلُهُ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى قِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ تَغْلِيبًا وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ، وَالشَّعْبِيُّ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ مَعَ الرِّجَالِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ، لِأَنَّ عَفْوَ الْوَلِيِّ عَنْ شَيْءٍ لَا يَمْلِكُهُ لَيْسَ هُوَ أَقْرَبَ إِلَى التَّقْوَى، بَلْ أَقْرَبُ إِلَى الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ. قَوْلُهُ: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الْوَاوِ وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: بِكَسْرِهَا، وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَلَا تَنَاسَوُا وَالْمَعْنَى: أَنَّ الزَّوْجَيْنِ لَا يَنْسَيَانِ التَّفَضُّلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: أَنْ تَتَفَضَّلَ الْمَرْأَةُ بِالْعَفْوِ عَنِ النِّصْفِ، وَيَتَفَضَّلَ الرَّجُلُ عَلَيْهَا بِإِكْمَالِ الْمَهْرِ، وَهُوَ إِرْشَادٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنَ الْأَزْوَاجِ إِلَى تَرْكِ التَّقَصِّي عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَالْمُسَامَحَةِ فِيمَا يَسْتَغْرِقُهُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِلْوَصْلَةِ التي قد وقعت بينهما مِنْ إِفْضَاءِ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ، وَهِيَ وَصْلَةٌ لَا يُشْبِهُهَا وَصْلَةٌ، فَمِنْ رِعَايَةِ حَقِّهَا وَمَعْرِفَتِهَا حَقَّ مَعْرِفَتِهَا الْحِرْصُ مِنْهُمَا عَلَى التَّسَامُحِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فِيهِ مِنْ تَرْغِيبِ الْمُحْسِنِ وَتَرْهِيبِ غَيْرِهِ مَا لَا يَخْفَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً قَالَ: الْمَسُّ: النِّكَاحُ، وَالْفَرِيضَةُ: الصداق وَمَتِّعُوهُنَّ قَالَ:
هُوَ عَلَى الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُمَتِّعَهَا عَلَى قَدْرِ عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا مَتَّعَهَا بِخَادِمٍ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا مَتَّعَهَا بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مُتْعَةُ الطَّلَاقِ: أَعْلَاهَا الْخَادِمُ وَدُونَ ذَلِكَ الْوَرِقُ، وَدُونَ ذَلِكَ الْكُسْوَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ عُمَرَ قَالَ: أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنَ الْمُتْعَةِ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا.
وَرَوَى الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: أَنَّهُ مَتَّعَ بِعِشْرِينَ أَلْفًا وَرُقَاقٍ مِنْ عَسَلٍ. وَعَنْ شُرَيْحٍ: أَنَّهُ مَتَّعَ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: أَنَّهُ مَتَّعَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّهُ كَانَ يُمَتِّعُ بِالْخَادِمِ وَالنَّفَقَةِ أَوْ بِالْكُسْوَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ قَالَ الْمَسُّ: الْجِمَاعُ، فَلَهَا نِصْفُ صَدَاقِهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ. وَهِيَ الْمَرْأَةُ الثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ يُزَوِّجُهَا غَيْرُ أَبِيهَا، فَجَعَلَ اللَّهُ الْعَفْوَ لَهُنَّ إِنْ شِئْنَ عَفَوْنَ بِتَرْكِهِنَّ، وَإِنْ شِئْنَ أَخَذْنَ نصف الصداق أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَهُوَ أَبُو الْجَارِيَةِ الْبِكْرِ، جُعِلَ الْعَفْوُ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهَا مَعَهُ أَمْرٌ إِذَا طُلِّقَتْ مَا كَانَتْ فِي حِجْرِهِ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَيَخْلُو بِهَا وَلَا يَمَسُّهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا: لَيْسَ لَهَا إِلَّا نِصْفُ الصَّدَاقِ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَإِنْ جَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ: الزَّوْجُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute