للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ الْمَعَانِي أَنَّ هَلْ هُنَا بِمَعْنَى قَدْ، وَلَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ، وَقَدْ قَالَ بِهَذَا سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: «هَلْ» تَكُونُ جَحْدًا، وَتَكُونُ خَبَرًا، فَهَذَا مِنَ الْخَبَرِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: هَلْ أَعْطَيْتُكَ؟ تُقَرِّرُهُ بِأَنَّكَ أَعْطَيْتَهُ، وَالْجَحْدُ أَنْ تَقُولَ: هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِ هَذَا؟ وَقِيلَ:

هِيَ وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى قَدْ فَفِيهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَالْأَصْلُ: أَهَلْ أَتَى، فَالْمَعْنَى: أَقَدْ أَتَى، وَالِاسْتِفْهَامُ للتقرير والتقريب، والمراد بالإنسان هنا آدم، قاله قَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ قِيلَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ خُلِقَ مِنْ طِينِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ صَلْصَالٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَتَمَّ خَلْقُهُ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: الْحِينُ الْمَذْكُورُ هُنَا لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ بَنُو آدَمَ، وَالْحِينُ مُدَّةُ الْحَمْلِ، وَجُمْلَةُ: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْإِنْسَانِ، أَوْ فِي مَحَلِّ رَفْعِ صِفَةٍ لِحِينٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَقُطْرُبٌ وَثَعْلَبٌ: الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ جَسَدًا مُصَوَّرًا تُرَابًا وَطِينًا لَا يُذْكَرُ وَلَا يُعْرَفُ وَلَا يُدْرَى مَا اسْمُهُ وَلَا مَا يُرَادُ بِهِ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَصَارَ مَذْكُورًا.

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا فِي الْخَلْقِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الْإِخْبَارُ، فَإِنَّ إِخْبَارَ الرَّبِّ عَنِ الْكَائِنَاتِ قَدِيمٌ، بَلْ هُوَ الذِّكْرُ بِمَعْنَى الْخَطَرِ وَالشَّرَفِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «١» . قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَا كَانَ مَذْكُورًا لِلْخَلْقِ وَإِنْ كَانَ مَذْكُورًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ:

كَانَ شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا. فَجُعِلَ النَّفْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْقَيْدِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: قَدْ مَضَتْ أَزْمِنَةٌ وَمَا كَانَ آدَمُ شَيْئًا وَلَا مَخْلُوقًا وَلَا مَذْكُورًا لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلِيقَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ: هَلْ أَتَى حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، لِأَنَّهُ خَلَقَهُ بَعْدَ خَلْقِ الْحَيَوَانِ كله، ولم يخلق بعده حيوان إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا ابْنُ آدَمَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَالنُّطْفَةُ: الْمَاءُ الَّذِي يُقَطَّرُ، وَهُوَ الْمَنِيُّ، وَكُلُّ مَاءٍ قَلِيلٌ فِي وِعَاءٍ فَهُوَ نُطْفَةٌ، وجمعها نطف، وأَمْشاجٍ صِفَةٌ لِنُطْفَةٍ، وَهِيَ جَمْعُ مُشُجٍ، أَوْ مَشِيجٍ، وَهِيَ الْأَخْلَاطُ، وَالْمُرَادُ نُطْفَةُ الرَّجُلِ وَنُطْفَةُ الْمَرْأَةِ وَاخْتِلَاطُهُمَا. يُقَالُ: مَشَجَ هَذَا بِهَذَا فَهُوَ مَمْشُوجٌ، أَيْ: خَلَطَ هَذَا بِهَذَا فَهُوَ مَخْلُوطٌ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: مَشَجَ يَمْشُجُ إِذَا اخْتَلَطَ، وَهُوَ هُنَا اخْتِلَاطُ النُّطْفَةِ بِالدَّمِ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:

يطرحن كلّ معجل نشّاج ... لم يكس جلدا في دم أمشاج


(١) . الزخرف: ٤٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>