صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ ذُو قُوَّةٍ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَى الْأُمَّةِ «مُطَاعٍ» يُطِيعُهُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ «أَمِينٌ» عَلَى الْوَحْيِ وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ الْخِطَابُ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَالْمُرَادُ بِصَاحِبِهِمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: وَمَا مُحَمَّدٌ يَا أَهْلَ مَكَّةَ بِمَجْنُونٍ، وَذِكْرُهُ بِوَصْفِ الصُّحْبَةِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِأَمْرِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَرْمُونَهُ بِهِ مِنَ الْجُنُونِ وَغَيْرِهِ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ أَعْقَلُ النَّاسِ وَأَكْمَلُهُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ دَاخِلَةٌ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ، فَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ مِنْ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، وَأَنَّهُ يَأْتِي بِالْقُرْآنِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ اللام واقعة جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَتَاللَّهِ لَقَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ جِبْرِيلَ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، أَيْ: بِمَطْلَعِ الشَّمْسِ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ لِأَنَّ هَذَا الْأُفُقَ إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ تَطْلُعُ مِنْهُ فَهُوَ مُبِينٌ لِأَنَّ من جهته ترى الأشياء. وقيل: بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ: أَقْطَارُ السَّمَاءِ وَنَوَاحِيهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أخذنا بآفاق السَّمَاءِ عَلَيْكُمُ ... لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ
وَإِنَّمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ رَآهُ غَيْرَ مَرَّةٍ لِأَنَّهُ رَآهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، قَالَ سُفْيَانُ: إِنَّهُ رَآهُ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ الشَّرْقِيِّ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: فِي أُفُقِ السَّمَاءِ الْغَرْبِيِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رَآهُ نَحْوَ أَجْيَادٍ، وَهُوَ مشرق مكة، و «المبين» صِفَةٌ لِلْأُفُقِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ. وَقِيلَ: صِفَةٌ لِمَنْ رَآهُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَلَقَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي سُورَةِ النَّجْمِ وَما هُوَ أَيْ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْغَيْبِ يَعْنِي خَبَرَ السَّمَاءِ وَمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِمَّا كَانَ غَائِبًا عِلْمُهُ عَنْ أَهْلِ مكة بِضَنِينٍ بمتهم، أي: هو ثقة فبما يُؤَدِّي عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقِيلَ: «بِضَنِينٍ» : بِبَخِيلٍ، أَيْ: لَا يَبْخَلُ بِالْوَحْيِ، وَلَا يُقَصِّرُ فِي التَّبْلِيغِ، وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِلَافِ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ «بِظَنِينٍ» بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ، أَيْ: بِمُتَّهَمٍ، وَالظِّنَّةُ: التُّهْمَةُ، وَاخْتَارَ هَذِهِ القراءة أبو عبيد قال: لأنهم لم يبخّلوه وَلَكِنْ كَذَّبُوهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَنِينٍ بِالضَّادِ، أَيْ: ببخل، مَنْ ضَنِنْتُ بِالشَّيْءِ أَضِنُّ ضَنًا إِذَا بَخِلْتُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لَا يَضِنُّ عَلَيْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ بَلْ يُعَلِّمُ الْخَلْقَ كَلَامَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ جِبْرِيلُ إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أَيْ: وَمَا الْقُرْآنُ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ لِلسَّمْعِ الْمَرْجُومَةِ بِالشُّهُبِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَقُولُ إِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِشِعْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٍ. قَالَ عَطَاءٌ:
يُرِيدُ بِالشَّيْطَانِ: الشَّيْطَانَ الْأَبْيَضَ الَّذِي كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ جِبْرِيلَ يُرِيدُ أَنْ يَفْتِنَهُ. ثُمَّ بَكَّتَهُمْ سُبْحَانَهُ وَوَبَّخَهُمْ فَقَالَ: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أَيْ: أَيْنَ تَعْدِلُونَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ وَعَنْ طَاعَتِهِ، كَذَا قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ أَيَّ طَرِيقٍ تَسْلُكُونَ أَبْيَنَ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ تَذْهَبُ؟ وَإِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟ وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ: ذَهَبْتُ الشَّامَ، وَخَرَجْتُ الْعِرَاقَ، وَانْطَلَقْتُ السُّوقَ، أَيْ: إِلَيْهَا. قَالَ:
سَمِعْنَاهُ فِي هَذِهِ الْأَحْرُفِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنْشَدَ لِبَعْضِ بَنِي عَقِيلٍ:
تَصِيحُ بِنَا حَنِيفَةُ إِذْ رَأَتْنَا- وَأَيُّ الْأَرْضِ تَذْهَبُ بالصّياح
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute