الْقُبُورِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ وَانْتِصَابُ عَيْنًا عَلَى الْمَدْحِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَى الْحَالِ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ عَيْنًا حَالًا مَعَ كَوْنِهَا جَامِدَةً غَيْرَ مُشْتَقَّةٍ لِاتِّصَافِهَا بِقَوْلِهِ: يَشْرَبُ بِهَا وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِيُسْقَوْنَ، أَيْ: يُسْقَوْنَ عَيْنًا، أَوْ مِنْ عَيْنٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِتَسْنِيمٍ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّنَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ- يَتِيماً «١» وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ الْمُبَرِّدُ. قِيلَ وَالْبَاءُ فِي بِهَا زَائِدَةٌ، أَيْ: يَشْرَبُهَا، أَوْ بِمَعْنَى مِنْ، أَيْ: يَشْرَبُ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بَلَغَنَا أَنَّهَا عَيْنٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، قيل: يشرب الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، وَيُمْزَجُ بِهَا كَأْسُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ قَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ أَيْ: كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَسْتَهْزِئُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ، ويسخرون منهم وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ
أي: مَرَّ الْمُؤْمِنُونَ بِالْكَفَّارِ وَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ يَتَغامَزُونَ
مِنَ الْغَمْزِ، وَهُوَ الْإِشَارَةُ بِالْجُفُونِ وَالْحَوَاجِبِ، أَيْ: يَغْمِزُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُشِيرُونَ بِأَعْيُنِهِمْ وَحَوَاجِبِهِمْ، وَقِيلَ: يُعَيِّرُونَهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَيَعِيبُونَهُمْ بِهِ وَإِذَا انْقَلَبُوا أَيِ: الْكُفَّارُ إِلى أَهْلِهِمُ مِنْ مَجَالِسِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أَيْ: مُعْجَبِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ مُتَلَذِّذِينَ بِهِ، يَتَفَكَّهُونَ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالطَّعْنِ فِيهِمْ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ وَالسُّخْرِيَةِ مِنْهُمْ. وَالِانْقِلَابُ:
الِانْصِرَافُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «فَاكِهِينَ» وَقَرَأَ حَفْصٌ وَابْنُ الْقَعْقَاعِ وَالْأَعْرَجُ وَالسُّلَمِيُّ «فَكِهِينَ» بِغَيْرِ أَلِفٍ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا لُغَتَانِ، مِثْلَ طَمِعٌ وَطَامِعٌ، وَحَذِرٌ وَحَاذِرٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ أَنَّ الْفَكِهَ: الْأَشِرُ الْبَطِرُ، وَالْفَاكِهُ: النَّاعِمُ الْمُتَنَعِّمُ وَإِذا رَأَوْهُمْ أَيْ: إِذَا رَأَى الْكُفَّارُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَيِّ مَكَانٍ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ فِي اتِّبَاعِهِمْ مُحَمَّدًا، وَتَمَسُّكِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَتَرْكِهِمُ التَّنَعُّمَ الْحَاضِرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى:
وَإِذَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ الْكَافِرِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَجُمْلَةُ وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ قَالُوا، أَيْ: قَالُوا ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يُرْسِلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ مُوَكَّلِينَ بِهِمْ يَحْفَظُونَ عَلَيْهِمْ أَحْوَالَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ: الْيَوْمُ الْآخِرُ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَضْحَكُونَ مِنَ الْكُفَّارِ حِينَ يَرَوْنَهُمْ أَذِلَّاءَ مَغْلُوبِينَ قَدْ نَزَلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا ضَحِكَ الْكُفَّارُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَجُمْلَةُ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَضْحَكُونَ، أَيْ: يَضْحَكُونَ مِنْهُمْ نَاظِرِينَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَالِ الْفَظِيعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَرَائِكِ قَرِيبًا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا أَرَادُوا نَظَرُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ إِلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ، فَضَحِكُوا مِنْهُمْ كَمَا ضَحِكُوا مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ اخْرُجُوا وَيُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا، فَإِذَا رَأَوْهَا قَدْ فُتِحَتْ أَقْبَلُوا إِلَيْهَا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ وَالْمُؤْمِنُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ عَلَى الْأَرَائِكِ، فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى أَبْوَابِهَا غُلِّقَتْ دُونَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْجَزَاءُ لِلْكَفَّارِ بِمَا كَانَ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الدنيا من الضحك
(١) . البلد: ١٤- ١٥.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute