للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُقَالُ: مَا أَدْرِي أَيْنَ طَحَا! وَيُقَالُ: طَحَا به قلبه، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «١» :

طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ ... بُعَيْدَ الشَّبَابِ عَصْرَ حَانَ مَشِيبُ

وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها الْكَلَامُ فِي «مَا» هَذِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَعْنَى سَوَّاهَا: خَلَقَهَا وَأَنْشَأَهَا وَسَوَّى أَعْضَاءَهَا. قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ جَمِيعَ مَا خَلَقَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّفْخِيمِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْسُ آدَمَ فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها أَيْ: عَرَّفَهَا وَأَفْهَمَهَا حَالَهُمَا وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَّفَهَا طَرِيقَ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: فَأَلْهَمَهَا: عَرَّفَهَا طَرِيقَ الْخَيْرِ وطريق الشرّ، كما قال:

وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «٢» . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا أَلْهَمَهُ الْخَيْرَ فَعَمِلَ بِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ الشَّرَّ أَلْهَمَهُ الشَّرَّ فَعَمِلَ بِهِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جَعَلَ فِيهَا ذَلِكَ بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهَا لِلتَّقْوَى، وَخِذْلَانِهِ إِيَّاهَا لِلْفُجُورِ، وَاخْتَارَ هَذَا الزَّجَّاجُ، وَحَمَلَ الْإِلْهَامَ عَلَى التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ لِتَفْسِيرِ الْإِلْهَامِ فَإِنَّ التَّبْيِينَ وَالتَّعْلِيمَ وَالتَّعْرِيفَ دُونَ الْإِلْهَامِ، وَالْإِلْهَامُ: أَنْ يُوقَعَ فِي قَلْبِهِ وَيُجْعَلَ فِيهِ، وَإِذَا أَوْقَعَ اللَّهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ شَيْئًا أَلْزَمَهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ. قَالَ: وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي الْمُؤْمِنِ تَقْوَاهُ، وَفِي الْكَافِرِ فُجُورَهُ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها أَيْ: قَدْ فَازَ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَأَنْمَاهَا وَأَعْلَاهَا بِالتَّقْوَى بِكُلِّ مَطْلُوبٍ وَظَفِرَ بِكُلِّ مَحْبُوبٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَأَصْلُ الزَّكَاةِ: النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ، وَمِنْهُ زَكَا الزَّرْعُ إِذَا كَثُرَ وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أَيْ: خَسِرَ مَنْ أَضَلَّهَا وَأَغْوَاهَا. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: دَسَّاهَا أَصْلُهُ دَسَّسَهَا، مِنَ التَّدْسِيسِ، وَهُوَ إِخْفَاءُ الشَّيْءِ فِي الشيء، فمعنى دسّاها في الآية: أخفاها وأهملها وَلَمْ يُشْهِرْهَا بِالطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَكَانَتْ أَجْوَادُ الْعَرَبِ تَنْزِلُ الْأَمْكِنَةَ الْمُرْتَفِعَةَ لِيَشْتَهِرَ مَكَانُهَا فَيَقْصِدَهَا الضُّيُوفُ، وَكَانَتْ لِئَامُ الْعَرَبِ تَنْزِلُ الْهِضَابَ وَالْأَمْكِنَةَ الْمُنْخَفِضَةَ لِيَخْفَى مَكَانُهَا عَنِ الْوَافِدِينَ. وَقِيلَ: مَعْنَى دَسَّاهَا: أَغْوَاهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَأَنْتَ الَّذِي دَسَّيْتَ عَمْرًا فَأَصْبَحَتْ ... حَلَائِلُهُ مِنْهُ أَرَامِلَ ضُيَّعَا

وقال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أَيْ: دَسَّ نَفْسَهُ فِي جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ وَلَيْسَ مِنْهُمْ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها الطَّغْوَى: اسْمٌ مِنَ الطُّغْيَانِ كالدعوى من الدعاء. قال الواحدي: قال المفسرون: كذبت ثمود بطغيانها، أي: الطغيان حملهم عَلَى التَّكْذِيبِ، وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْمَعَاصِي، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ.

وَقِيلَ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها أَيْ: بِعَذَابِهَا الَّذِي وُعِدَتْ بِهِ، وَسُمِّيَ الْعَذَابُ طَغْوَى لِأَنَّهُ طَغَى عَلَيْهِمْ، فَتَكُونُ الْبَاءُ عَلَى هَذَا لِلتَّعْدِيَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: بِطَغْواها أَيْ: بِأَجْمَعِهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ:

بِطَغْواها بِفَتْحِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بِضَمِّ الطَّاءِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأَوْلَى هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الطُّغْيَانِ، وَإِنَّمَا قُلِبَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ لِأَنَّهُمْ يَقْلِبُونَ الْيَاءَ فِي الْأَسْمَاءِ كَثِيرًا نَحْوَ تَقْوَى وَسَرْوَى، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ مَصْدَرٌ كَالرُّجْعَى وَالْحُسْنَى وَنَحْوِهِمَا، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ.

إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ كَذَّبَتْ، أَوْ بِطَغْوَاهَا، أَيْ: حِينَ قام أشقى ثمود، وهو قدار بن


(١) . هو علقمة.
(٢) . البلد: ١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>