أَيْ: بِوَاحِدٍ. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ يُنَافِي هَذَا وَصْفَ الْأَشْقَى بِالتَّكْذِيبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْكَافِرِ فَلَا يَتِمُّ مَا أَرَادَهُ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ شُمُولِ الْوَصْفَيْنِ لِعُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ صِفَةَ الْأَتْقَى فَقَالَ: الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ أَيْ: يُعْطِيهِ وَيَصْرِفُهُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَقَوْلُهُ:
يَتَزَكَّى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يُؤْتِي، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ زَكِيًّا لَا يَطْلُبُ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ يُؤْتِي دَاخِلًا مَعَهُ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَتَزَكَّى مُضَارِعُ تَزَكَّى. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ تَزَّكَّى بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الزَّايِ وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا مِنْ كَوْنِ التَّزَكِّي عَلَى جِهَةِ الْخُلُوصِ غَيْرَ مَشُوبٍ بِشَائِبَةٍ تُنَافِي الْخُلُوصَ، أَيْ: لَيْسَ مِمَّنْ يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ لِيُجَازِيَ بِصَدَقَتِهِ نِعْمَةً لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ عِنْدَهُ وَيُكَافِئَهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَبْتَغِي بِصَدَقَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ عِنْدَهُ نِعْمَةٌ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُجَازَى عَلَيْهَا حَتَّى يَقْصِدَ بِإِيتَاءِ مَا يُؤْتِي مِنْ مَالِهِ مُجَازَاتَهَا، وَإِنَّمَا قَالَ «نجزي» مُضَارِعًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ، وَالْأَصْلُ يَجْزِيهَا إِيَّاهُ، أَوْ يَجْزِيهِ إِيَّاهَا إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى قَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا ابْتِغاءَ بِالنَّصْبِ على الاستثناء المنقطع لعدم اندراجه تحت جنس النعمة، أي: لكن ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: لا يؤتي إلا لابتغاء وجه ربّه لا لمكافأة نعمة. قال الفراء: هو منصوب عَلَى التَّأْوِيلِ، أَيْ: مَا أَعْطَيْتُكَ ابْتِغَاءَ جَزَائِكَ بَلِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَحَلِّ نِعْمَةٍ، لِأَنَّ مَحَلَّهَا الرَّفْعُ إِمَّا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَإِمَّا على الابتداء ومن مَزِيدَةٌ، وَالرَّفْعُ لُغَةُ تَمِيمٍ، لِأَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الْبَدَلَ فِي الْمُنْقَطِعِ وَيُجْرُونَهُ مَجْرَى الْمُتَّصِلِ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ الرَّفْعَ فِي ابْتِغاءَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَوْضِعِ نِعْمَةٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: كَأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا قِرَاءَةً، وَاسْتِبْعَادُهُ هُوَ الْبَعِيدُ فَإِنَّهَا لُغَةٌ فَاشِيَةٌ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا ابْتِغاءَ بِالْمَدِّ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالْقَصْرِ، وَالْأَعْلَى نَعْتٌ لِلرَّبِّ وَلَسَوْفَ يَرْضى اللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، أَيْ: وَتَاللَّهِ لَسَوْفَ يَرْضَى بِمَا نُعْطِيهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْجَزَاءِ الْعَظِيمِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَرْضى مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقُرِئَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى قَالَ: إِذَا أَظْلَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ اشْتَرَى بِلَالًا مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ بِبُرْدَةٍ وَعَشْرِ أَوَاقٍ فَأَعْتَقَهُ لِلَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى سَعْيَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَيَّةَ وَأُبَيٍّ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى قَالَ: النَّارِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى مِنَ الْفَضْلِ وَاتَّقى قَالَ: اتَّقَى رَبَّهُ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى قَالَ: صَدَّقَ بِالْخَلَفِ مِنَ اللَّهِ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى قَالَ: لِلْخَيْرِ مِنَ اللَّهِ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى قَالَ: بَخِلَ بِمَالِهِ وَاسْتَغْنَى عَنْ رَبِّهِ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى قَالَ: بِالْخَلَفِ مِنَ اللَّهِ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى قَالَ: لِلشَّرِّ مِنَ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى قَالَ: أَيْقَنَ بِالْخَلَفِ. وَأَخْرَجَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute