للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمُرَادُ بِالضُّحَى هُنَا النَّهَارُ كُلُّهُ، لِقَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا سَجى فَلَمَّا قَابَلَ الضُّحَى بِاللَّيْلِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهَارُ كُلُّهُ لَا بَعْضُهُ. وَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِوَقْتِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها «١» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الضُّحَى مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَجَعْفَرٌ الصَّادِقُ: إِنَّ المراد الضُّحَى الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا سَجى لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالضُّحَى هُوَ السَّاعَةُ الَّتِي خَرَّ فِيهَا السَّحَرَةُ سُجَّدًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى «٢» وَقِيلَ: الْمُقْسَمُ بِهِ مُضَافٌ مُقَدَّرٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ، أَيْ: وَرَبِّ الضُّحَى، وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ: وَضَحَاوَةِ الضُّحَى، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا، فَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَقِيلَ: الضُّحَى: نُورُ الْجَنَّةِ، وَاللَّيْلُ: ظُلْمَةُ النَّارِ، وَقِيلَ: الضُّحَى:

نُورُ قُلُوبِ الْعَارِفِينَ، وَاللَّيْلُ: سَوَادُ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى أَيْ: سَكَنَ، كَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمْ. يُقَالُ: لَيْلَةٌ سَاجِيَةٌ: أَيْ سَاكِنَةٌ، وَيُقَالُ لِلْعَيْنِ إِذَا سَكَنَ طَرْفُهَا: سَاجِيَةٌ، يُقَالُ: سَجَا الشَّيْءُ يَسْجُو سُجُوًّا إِذَا سَكَنَ. قَالَ عَطَاءٌ: سَجَا: إذا غطّى بالظلمة. وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: سَجَا: امْتَدَّ ظَلَامُهُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سُجُوُّ اللَّيْلِ: تَغْطِيَتُهُ النَّهَارَ، مِثْلَ مَا يُسْجَى الرَّجُلُ بِالثَّوْبِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: غَشَّى بِظَلَامِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَقْبَلَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: اسْتَوَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ. وَمَعْنَى سُكُونِهِ: اسْتِقْرَارُ ظَلَامِهِ وَاسْتِوَاؤُهُ، فَلَا يُزَادُ بَعْدَ ذَلِكَ. مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ، أَيْ: مَا قَطَعَكَ قَطْعَ الْمُوَدِّعِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «مَا وَدَّعَكَ» بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ التَّوْدِيعِ، وَهُوَ تَوْدِيعُ الْمُفَارِقِ، وقرأ ابن عباس وعروة بن الزبير وابنه هَاشِمٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيْوَةَ بِتَخْفِيفِهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ وَدَعَهُ، أَيْ: تَرَكَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

سَلْ أَمِيرِي مَا الَّذِي غَيَّرَهُ ... عَنْ وِصَالِي الْيَوْمَ حَتَّى وَدَّعَهُ

وَالتَّوْدِيعُ أَبْلَغُ فِي الوداع لِأَنَّ مَنْ وَدَّعَكَ مُفَارِقًا فَقَدْ بَالَغَ فِي تَرْكِكَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: لَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ وَدَعَ وَلَا وَذَرَ، لِضَعْفِ الْوَاوِ إِذَا قُدِّمَتْ، وَاسْتَغْنَوْا عنها بترك. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَدَّعَكَ: مِنَ التَّوْدِيعِ كَمَا يُوَدِّعُ الْمُفَارِقُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يَقْطَعِ الْوَحْيَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ وَما قَلى الْقِلَى: الْبُغْضُ، يُقَالُ: قَلَاهُ يَقْلِيهِ قِلَاءً. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَا أَبْغَضَكَ، وَقَالَ: وَمَا قَلَى، وَلَمْ يَقُلْ وَمَا قَلَاكَ لِمُوَافَقَةِ رُؤُوسِ الْآيِ، وَالْمَعْنَى: وَمَا أَبْغَضَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

وَلَسْتُ بِمُقْلِي الْخِلَالِ ولا قال «٣»

وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى اللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْجَنَّةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُوتِيَ فِي الدُّنْيَا مِنْ شَرَفِ النُّبُوَّةِ مَا يَصْغُرُ عِنْدَهُ كُلُّ شَرَفٍ، وَيَتَضَاءَلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كُلُّ مَكْرُمَةٍ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتِ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا مَشُوبَةً بِالْأَكْدَارِ، مُنَغَّصَةً بِالْعَوَارِضِ البشرية، وكانت الحياة فيها


(١) . الشمس: ١.
(٢) . طه: ٥٩.
(٣) . وصدر البيت: صرفت الهوى عنهن من خشية الردى.

<<  <  ج: ص:  >  >>