للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ: الْمَعْنَى: ثُمَّ رَدَدْنَا الْكَافِرَ إِلَى النَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّارَ دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ، فَالْكَافِرُ يَرِدُ إِلَى أَسْفَلِ الدَّرَجَاتِ السَّافِلَةِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ «١» فَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مُجْتَمِعِينَ فِي ذَلِكَ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ، وَقَوْلُهُ: أَسْفَلَ سافِلِينَ إِمَّا حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، أَيْ: رَدَدْنَاهُ حَالَ كَوْنِهِ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، أَوْ صِفَةٌ لِمُقَدَّرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: مَكَانًا أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... إِلَخْ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْهَرَمَ وَالرَّدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ يُصَابُ بِهِ الْمُؤْمِنُ كَمَا يُصَابُ بِهِ الْكَافِرُ، فَلَا يَكُونُ لِاسْتِثْنَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْهِ الِاتِّصَالِ مَعْنًى. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا مِنْ ضَمِيرِ «رَدَدْنَاهُ» ، فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، أَيْ: رَدَدْنَا الْإِنْسَانَ أَسْفَلَ سَافِلِينَ مِنَ النَّارِ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ

أَيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ، أَيْ: فَلَهُمْ ثَوَابٌ دائم غير منقطع على طاعاتهم فهذه الجملة على القول الأوّل مبنية لكيفية حال المؤمنين، وعلى القول الثاني مقرّرة لما يفيده الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ خُرُوجِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ حُكْمِ الرَّدِّ، وَقَالَ: أَسْفَلَ سَافِلِينَ عَلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَلَوْ قَالَ أَسْفَلَ سَافِلٍ لَجَازَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: مَعْنَى «رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ» : رَدَدْنَاهُ إِلَى الضَّلَالِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ- إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «٢» أَيْ: إِلَّا هَؤُلَاءِ فَلَا يُرَدُّونَ إِلَى ذَلِكَ فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ الْخِطَابُ لِلْإِنْسَانِ الْكَافِرِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَإِلْزَامِ الْحُجَّةِ، أَيْ: إِذَا عَرَفْتَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَكَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَأَنَّهُ يَرُدُّكَ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، فَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى أَنْ تُكَذِّبَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ؟ وَقِيلَ:

الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُكَذِّبُكَ يَا مُحَمَّدُ بَعْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ النَّاطِقَةِ، فَاسْتَيْقِنْ مَعَ مَا جَاءَكَ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى: فَمَنْ يُكَذِّبُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ بِالدِّينِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟ أَيْ: عَلَى تَكْذِيبِكَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بَعْدَ مَا ظَهَرَ مِنْ قُدْرَتِنَا عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ مَا ظَهَرَ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَالدِّينُ: الْجَزَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

دِنَّا تَمِيمًا كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا ... دَانَتْ أَوَائِلَهُمْ مِنْ سَالِفِ الزَّمَنِ

وَقَالَ الْآخَرُ:

وَلَمَّا صَرَّحَ الشَّرُّ ... فَأَمْسَى وهو عريان

وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَا ... نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا

أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أَيْ: أَلَيْسَ الَّذِي فَعَلَ مَا فَعَلَ مِمَّا ذَكَرْنَا بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ صُنْعًا وَتَدْبِيرًا؟

حَتَّى تَتَوَهَّمَ عَدَمَ الْإِعَادَةِ وَالْجَزَاءِ، وَفِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلْكُفَّارِ، وَمَعْنَى أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ: أَتْقَنُ الْحَاكِمِينَ فِي كُلِّ مَا يَخْلُقُ، وَقِيلَ: أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَضَاءً وَعَدْلًا. وَالِاسْتِفْهَامُ إِذَا دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ صَارَ الْكَلَامُ إِيجَابًا كَمَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «٣» .


(١) . النساء: ١٤٥.
(٢) . العصر: ٢- ٣.
(٣) . الشرح: ١.

<<  <  ج: ص:  >  >>