للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في منى: وقيل: النَّحْرُ: وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ حذاء النَّحْرِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ التَّكْبِيرَةِ إِلَى حِذَاءَ نَحْرِهِ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِنَحْرِهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْكَلْبِيُّ وَأَبُو الْأَحْوَصِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ: نَتَنَاحَرُ، أَيْ: نَتَقَابَلُ نَحْرُ هَذَا إِلَى نَحْرِ هَذَا، أَيْ:

قُبَالَتَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَبَا حَكَمٍ ما أنت عمّ مُجَالِدٌ ... وَسَيِّدُ أَهْلِ الْأَبْطَحِ الْمُتَنَاحِرُ

أَيِ: الْمُتَقَابِلُ. وقال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هُوَ انْتِصَابُ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ بإزاء المحراب، من قولهم: منازلهم تتناحر، أي: تَتَقَابَلُ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَوِيَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ جَالِسًا حَتَّى يَبْدُوَ نحره.

وقال سليمان التيمي: المعنى: وارتفع يَدَيْكَ بِالدُّعَاءِ إِلَى نَحْرِكَ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُطْلَقِ الصَّلَاةِ وَمُطْلَقِ النَّحْرِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُمَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِغَيْرِهِ، وَمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ بَيَانِ هَذَا الْمُطْلَقِ بِنَوْعٍ خَاصٍّ فَهُوَ فِي حُكْمِ التَّقْيِيدِ لَهُ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أَيْ: إِنَّ مُبْغِضَكَ هُوَ الْمُنْقَطِعُ عَنِ الْخَيْرِ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَعُمُّ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَوِ الَّذِي لَا عَقِبَ لَهُ، أَوِ الَّذِي لَا يَبْقَى ذِكْرُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ، وَأَنَّ هَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنْ يُبْغِضُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنَ سَبَبِ النُّزُولِ هُوَ اْلَعَاصَ بْنَ وَائِلٍ، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا مرّ غير مَرَّةً. قِيلَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا مَاتَ الذُّكُورُ مِنْ أَوْلَادِ الرَّجُلِ قَالُوا: قَدْ بُتِرَ فُلَانٌ، فَلَمَّا مَاتَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمُ خَرَجَ أَبُو جَهْلٍ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: بُتِرَ مُحَمَّدٌ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقِيلَ: الْقَائِلُ بِذَلِكَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْأَبْتَرُ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ، وَمِنَ الدَّوَابِّ الَّذِي لَا ذَنَبَ لَهُ، وَكُلُّ أَمْرٍ انْقَطَعَ مِنَ الْخَيْرِ أَثَرُهُ فَهُوَ أَبْتَرُ، وَأَصْلُ الْبَتْرِ: الْقَطْعُ، يُقَالُ: بَتَرْتُ الشَّيْءَ بَتْرًا قَطَعْتُهُ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أَغْفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِغْفَاءَةً، فَرَفَعَ رَأْسَهُ مُبْتَسِمًا فَقَالَ: إِنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ، فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ- إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ حَتَّى خَتَمَهَا قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالُوا:

اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي فِي الْجَنَّةِ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ كَعَدَدِ الْكَوَاكِبِ يَخْتَلِجُ «١» الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي ما أحدث بعدك» . وأخرجه أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِنَهْرٍ حَافَّتَاهُ خِيَامُ اللُّؤْلُؤِ، فَضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى مَا يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ فَإِذَا مِسْكٌ أَذْفَرُ، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللَّهُ» وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ مِنْ طُرُقٍ كُلُّهَا مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ الْكَوْثَرَ هُوَ النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قَالَتْ: هُوَ نَهْرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بُطْنَانِ الجنة.


(١) . أي ينتزع ويقتطع.

<<  <  ج: ص:  >  >>