للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَوْلُ الْآخَرِ:

يَا جَعْفَرُ يَا جَعْفَرُ يَا جَعْفَرُ ... إِنْ أَكْ دَحْدَاحًا فَأَنْتَ أَقْصَرُ

وَقَوْلُ الْآخَرِ:

أَتَاكَ أَتَاكَ اللَّاحِقُونَ احْبِسِ احْبِسِ «١»

وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، وَهُوَ أَفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ أَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَفَائِدَةُ مَا وَقَعَ فِي السُّورَةِ مِنَ التَّأْكِيدِ هُوَ قَطْعُ أَطْمَاعِ الْكُفَّارِ عَنْ أَنْ يُجِيبَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا سَأَلُوهُ مِنْ عِبَادَتِهِ آلِهَتَهُمْ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ سبحانه بما الَّتِي لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ فِي الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّهُ يجوز ذلك، كما في قولهم: سبحان ما سخر كنّ لَنَا، وَنَحْوِهِ، وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَجْرِيَ الْكَلَامُ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ وَلَا يَخْتَلِفَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ الصِّفَةَ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْبُدُ الْبَاطِلَ وَلَا تَعْبُدُونَ الْحَقَّ. وَقِيلَ: إِنَّ «مَا» فِي الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ هِيَ الْمَصْدَرِيَّةُ لَا الْمَوْصُولَةُ، أَيْ: لَا أَعْبُدُ عِبَادَتَكُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ عِبَادَتِي ... إِلَخْ، وَجُمْلَةُ لَكُمْ دِينُكُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ قَوْلِهِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَقَوْلِهِ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِيَ دِينِ تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، أَيْ: إِنْ رَضِيتُمْ بِدِينِكُمْ فَقَدْ رَضِيتُ بِدِينِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ «٢» وَالْمَعْنَى: أَنَّ دِينَكُمُ الَّذِي هُوَ الْإِشْرَاكُ مَقْصُورٌ عَلَى الْحُصُولِ لَكُمْ لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى الْحُصُولِ لِي كَمَا تَطْمَعُونَ، وَدِينِي الَّذِي هُوَ التَّوْحِيدُ مَقْصُورٌ عَلَى الْحُصُولِ لِي لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى الْحُصُولِ لَكُمْ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَكُمْ جَزَاؤُكُمْ وَلِي جَزَائِي لِأَنَّ الدِّينَ الْجَزَاءُ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ لِأَنَّهَا أَخْبَارٌ، وَالْأَخْبَارُ لَا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بإسكان الياء من قوله: «ولي» قرأ نَافِعٌ وَهِشَامٌ وَحَفْصٌ وَالْبَزِّيُّ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا بِحَذْفِ الْيَاءِ مِنْ دِينِي وَقْفًا وَوَصْلًا، وَأَثْبَتَهَا نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَسَلَامٌ وَيَعْقُوبُ وَصْلًا وَوَقْفًا. قَالُوا لِأَنَّهَا اسْمٌ فَلَا تُحْذَفُ.

وَيُجَابُ بِأَنَّ حَذْفَهَا لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ سَائِغٌ وَإِنْ كَانَتِ اسْمًا.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ قُرَيْشًا دَعَتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ يُعْطُوهُ مَالًا فَيَكُونَ أَغْنَى رَجُلٍ بِمَكَّةَ، وَيُزَوِّجُوهُ مَا أَرَادَ مِنَ النِّسَاءِ، فَقَالُوا: هَذَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ وَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، وَلَا تَذْكُرْهَا بِسُوءٍ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ خَصْلَةً وَاحِدَةً وَلَكَ فِيهَا صَلَاحٌ، قَالَ: مَا هِيَ؟

قَالُوا: تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، قَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأْتِينِي مِنْ رَبِّي، فَجَاءَ الْوَحْيُ مِنْ عند الله قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ- لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ إِلَى قَوْلِهِ: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ «٣» . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم،


(١) . وصدره: فأين إلى أين النّجاة ببغلتي.
(٢) . البقرة: ١٣٩.
(٣) . الزمر: ٦٤- ٦٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>