للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا تَدْخُلَنَّكَ ضَجْرَةٌ مِنْ سَائِلِ ... فَلَخَيْرُ دَهْرِكَ أن ترى مسؤولا

لَا تَجْبَهَنْ بِالرَّدِ وَجْهَ مُؤَمِّلِ ... فَبَقَاءُ عِزِّكَ أَنْ تُرَى مَأْمُولَا

وَالْمُرَادُ بِالْمَغْفِرَةِ: السَّتْرُ لِلْخُلَّةِ، وَسُوءِ حَالَةِ الْمُحْتَاجِ، وَالْعَفْوُ عَنِ السَّائِلِ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ مِنَ الْإِلْحَاحِ مَا يُكَدِّرُ صَدْرَ المسؤول وَقِيلَ: الْمُرَادُ: أَنَّ الْعَفْوَ مِنْ جِهَةِ السَّائِلِ، لِأَنَّهُ إِذَا رَدَّهُ رَدًّا جَمِيلًا عَذَرَهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ:

فِعْلٌ يُؤَدِّي إِلَى الْمَغْفِرَةِ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ، أَيْ: غُفْرَانُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَتِكُمْ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِتَرْكِ اتِّبَاعِ الْمَنِّ والأذى للصدقة. قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى الْإِبْطَالُ لِلصَّدَقَاتِ: إِذْهَابُ أَثَرِهَا وَإِفْسَادُ مَنْفَعَتِهَا، أَيْ: لَا تُبْطِلُوهَا بِالْمَنِّ وَالْأَذَى أَوْ بأحدهما. قوله: كَالَّذِي أي: إبطالا كالإبطال الَّذِي، عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، أَيْ: لَا تُبْطِلُوا مُشَابِهِينَ لِلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، وَانْتِصَابُ رِئَاءَ: عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: يُنْفِقُ أَيْ: لِأَجْلِ الرِّيَاءِ، أَوْ حَالٌ، أَيْ: يُنْفِقُ مُرَائِيًا لَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَثَوَابَ الْآخِرَةِ، بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ رِيَاءً لِلنَّاسِ، اسْتِجْلَابًا لِثَنَائِهِمْ عَلَيْهِ، وَمَدْحِهِمْ لَهُ قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُنَافِقُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. قَوْلُهُ: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ الصَّفْوَانُ: الْحَجَرُ الْكَبِيرُ الْأَمْلَسُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: صَفْوَانٌ جَمْعُ صَفْوَانَةٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:

صفوان: واحد، وجمعه: صفي، وصفي، وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا، وَهُوَ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ وَالْوَابِلُ: الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، مَثَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمُنْفِقَ بِصَفْوَانٍ عليه التراب يَظُنُّهُ الظَّانُّ أَرْضًا مُنْبِتَةً طَيِّبَةً، فَإِذَا أَصَابَهُ وَابِلٌ مِنَ الْمَطَرِ أَذْهَبَ عَنْهُ التُّرَابَ وَبَقِيَ صَلْدًا، أَيْ: أَجْرَدَ نَقِيًّا مِنَ التُّرَابِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُرَائِي، فَإِنَّ نَفَقَتَهُ لَا تَنْفَعُهُ، كَمَا لَا يَنْفَعُ الْمَطَرُ الْوَاقِعُ عَلَى الصَّفْوَانِ الَّذِي عَلَيْهِ تُرَابٌ، قَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أَيْ: لَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا فَعَلُوهُ رِيَاءً، وَلَا يَجِدُونَ لَهُ ثَوَابًا، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا يَكُونُ حَالُهُمْ حِينَئِذٍ؟ فَقِيلَ:

لَا يَقْدِرُونَ، إِلَخْ، وَالضَّمِيرَانِ لِلْمَوْصُولِ، أَيْ: كَالَّذِي، بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى، كَمَا فِي قوله تعالى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا «١» أَيِ: الْجِنْسُ، أَوِ الْجَمْعُ، أَوِ الْفَرِيقُ. قَوْلُهُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ مفعول له، وتثبيتا: مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضًا مَفْعُولٌ لَهُ، أَيِ: الْإِنْفَاقُ لِأَجْلِ الِابْتِغَاءِ، وَالتَّثْبِيتُ، كَذَا قَالَ مَكِّيٌّ فِي الْمُشْكِلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ مَرْدُودٌ، لَا يَصِحُّ فِي تَثْبِيتًا أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ التَّثْبِيتِ. قال: وابتغاء، نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَكَانَ يُتَوَجَّهُ فِيهِ النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، لَكِنَّ النَّصْبَ عَلَى الْمَصْدَرِ هُوَ الصَّوَابُ مِنْ جِهَةِ عَطْفِ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ تَثْبِيتًا عَلَيْهِ، وابتغاء معناه: طلب، ومرضاة: مَصْدَرُ رَضِيَ، يَرْضَى، وَتَثْبِيتًا: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ رِيَاضَةً لَهَا وَتَدْرِيبًا وَتَمْرِينًا، أَوْ يَكُونُ التَّثْبِيتُ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ، أَيْ: تَصْدِيقًا لِلْإِسْلَامِ نَاشِئًا مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَرْفِ، فَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَتَثَبَّتُونَ أَنْ يَضَعُوا صَدَقَاتِهِمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: تصديقا ويقينا، روي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: احْتِسَابًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّ


(١) . التوبة: ٦٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>