لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَّ مَا جَرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ امْتِحَانًا لِيَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْمُنَافِقِ، وَالْكَاذِبُ مِنَ الصَّادِقِ، بَيَّنَ هَاهُنَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْهَزِمْ وَقُتِلَ فَلَهُ هَذِهِ الْكَرَامَةُ وَالنِّعْمَةُ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا يَتَنَافَسُ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ، لَا مِمَّا يُخَافُ وَيُحْذَرُ، كَمَا قَالُوا مَنْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا وقالوا: لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَقُرِئَ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ حَاسِبٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الشُّهَدَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَقِيلَ:
فِي شُهَدَاءِ بَدْرٍ، وَقِيلَ: فِي شُهَدَاءِ بِئْرِ مَعُونَةَ. وَعَلَى فَرْضِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَبَبٍ خَاصٍّ فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ حَيَاةً مُحَقَّقَةً. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحُهُمْ فِي قُبُورِهِمْ فَيَتَنَعَّمُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُرْزَقُونَ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، أَيْ: يَجِدُونَ رِيحَهَا وَلَيْسُوا فِيهَا، وَذَهَبَ مَنْ عَدَا الْجُمْهُورِ: إِلَى أَنَّهَا حَيَاةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ اللَّهِ مستحقون للتنعم فِي الْجَنَّةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَا مُوجِبَ لِلْمَصِيرِ إِلَى الْمَجَازِ. وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ بِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ، وَأَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ يُرْزَقُونَ، وَيَأْكُلُونَ، وَيَتَمَتَّعُونَ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ قُتِلُوا هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ.
وَالْحَاسِبُ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، أَوْ كُلُّ أَحَدٍ كَمَا سَبَقَ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ هُوَ فَاعِلُ الْفِعْلِ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ أَمْوَاتًا، وَهَذَا تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ وَالْجَلَاءِ. وَقَوْلُهُ: بَلْ أَحْياءٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ. وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ، أَيْ: بَلْ أَحْسَبُهُمْ أَحْيَاءً. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ إِمَّا خَبَرٌ ثَانٍ، أَوْ صِفَةٌ لِأَحْيَاءٍ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: عِنْدَ كَرَامَةِ رَبِّهِمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: هَذِهِ عِنْدِيَّةُ الْكَرَامَةِ، لَا عِنْدِيَّةُ الْقُرْبِ. وَقَوْلُهُ: يُرْزَقُونَ يَحْتَمِلُ فِي إِعْرَابِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّهِمْ وَالْمُرَادُ بِالرِّزْقِ هُنَا: هُوَ الرِّزْقُ الْمَعْرُوفُ فِي العادات على ما ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَا سَلَفَ، وَعِنْدَ مَنْ عَدَا الجمهور المراد: الثَّنَاءُ الْجَمِيلُ، وَلَا وَجْهَ يَقْتَضِي تَحْرِيفَ الْكَلِمَاتِ الْعَرَبِيَّةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَمْلَهَا عَلَى مَجَازَاتٍ بَعِيدَةٍ، لَا لِسَبَبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: فَرِحِينَ حال من الضمير في يرزقون، وبما آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ: مُتَعَلِّقٌ بِهِ. وَقَرَأَ ابن السميقع: «فَارِحِينَ» وَهُمَا لُغَتَانِ، كَالْفَرِهِ وَالْفَارِهِ، وَالْحَذِرِ وَالْحَاذِرِ.
وَالْمُرَادُ: بِما آتاهُمُ اللَّهُ مَا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْكَرَامَةِ بِالشَّهَادَةِ، وَمَا صَارُوا فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ، وَمَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ لَمْ يُقْتَلُوا إِذْ ذَاكَ. فَالْمُرَادُ بِاللُّحُوقِ هُنَا: أَنَّهُمْ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ فِي الْقَتْلِ وَالشَّهَادَةِ، بَلْ سَيَلْحَقُونَ بِهِمْ من بعد، وقيل:
المراد: يَلْحَقُوا بِهِمْ فِي الْفَضْلِ وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ فَضْلٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْوَاوُ: فِي وَيَسْتَبْشِرُونَ، عَاطِفَةٌ عَلَى يُرْزَقُونَ أَيْ: يُرْزَقُونَ وَيَسْتَبْشِرُونَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِإِخْوَانِهِمْ هُنَا: جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ الشُّهَدَاءِ وَغَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ عَايَنُوا ثَوَابَ اللَّهِ وَحَصَلَ لَهُمُ الْيَقِينُ بِحَقِّيَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ اسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الذين
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute