للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْكُفَّارِ، وَيَجْعَلُ عَيْشَهُمْ رَغْدًا لِيَزْدَادُوا إِثْمًا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَسَمِعْتُ الْأَخْفَشَ يَذْكُرُ كَسْرَ أَنَّما نُمْلِي الْأُولَى وَفَتْحَ الثَّانِيَةِ، وَيَحْتَجُّ بِذَلِكَ لِأَهْلِ الْقَدَرِ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ، وَيَجْعَلُهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ ازْدِيَادَ الْإِثْمِ عِلَّةٌ، وما كل علة بعرض، ألا ترك تَقُولُ: قَعَدْتُ عَنِ الْغَزْوِ لِلْعَجْزِ وَالْفَاقَةِ، وَخَرَجْتُ مِنَ الْبَلَدِ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يَعْرِضُ لَكَ، وَإِنَّمَا هِيَ عِلَلٌ وَأَسْبَابٌ. قَوْلُهُ: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ.

وَالْخِطَابُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَتْرُكَكُمْ عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَاطِ حَتَّى يَمِيزَ بَعْضَكُمْ مِنْ بَعْضٍ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ: مَنْ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ، أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ أَوْلَادَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ! عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِالْمُنَافِقِينَ حَتَّى يَمِيزَ بَيْنَكُمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَالْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ. وَقُرِئَ يَمِيزَ بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُخَفَّفِ، مِنْ: مَازَ الشَّيْءَ، يَمِيزُهُ، مَيْزًا «١» : إِذَا فَرَّقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ أَشْيَاءَ قِيلَ: مَيَّزَهُ تَمْيِيزًا وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ حَتَّى تُمَيِّزُوا بَيْنَ الطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ، فَإِنَّهُ الْمُسْتَأْثِرُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، لَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ، يَجْتَبِيهِ فَيُطْلِعَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْبِهِ، فَيُمَيِّزَ بَيْنَكُمْ، كَمَا وَقَعَ مِنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِنْ تَعْيِينِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ لَهُ، لَا بِكَوْنِهِ يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى:

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ فِي مَنْ يَسْتَحِقُّ النُّبُوَّةَ، حَتَّى يَكُونَ الْوَحْيُ بِاخْتِيَارِكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي أَيْ: يَخْتَارُ مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ. قَوْلُهُ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَيِ: افْعَلُوا الْإِيمَانَ الْمَطْلُوبَ مِنْكُمْ، وَدَعُوا الِاشْتِغَالَ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِكُمْ مِنَ التَّطَلُّعِ لِعِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا بِمَا ذُكِرَ وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ أَجْرٌ عَظِيمٌ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ، وَلَا يُبْلَغُ كُنْهُهُ. قَوْلُهُ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ الْمَوْصُولُ: فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ الْفِعْلِ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ الْبَاخِلُونَ الْبُخْلَ خَيْرًا لَهُمْ. قَالَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءُ. قَالُوا:

وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ ... وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ

أَيْ: جَرَى إِلَى السَّفَهِ، فَالسَّفِيهُ دَلَّ عَلَى السَّفَهِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْفَوْقِيَّةِ: فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ! بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ خَيْرًا لَهُمْ. قال الزجاج: هو مثل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ، وَالضَّمِيرُ الْمَذْكُورُ: هُوَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَالسِّينُ فِي قَوْلِهِ:

سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ سِينُ الْوَعِيدِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ قِيلَ: وَمَعْنَى


(١) . هذا التصريف هو للفعل المخفف يميز.

<<  <  ج: ص:  >  >>