للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هِيَ ظَرْفٌ عَلَى عَامِلِهَا الْمَعْنَوِيِّ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُمْ يُوجِبُونَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاجِبَاتٍ مِنْ جُمْلَتِهَا قَبُولُ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ وَقِيلَ: عَلَى، هُنَا: بِمَعْنَى عِنْدَ وَقِيلَ: بِمَعْنَى مِنْ.

وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ: عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ فَرْضٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ «١» وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا تَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ دُونَ ذَنْبٍ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: عَلَى اللَّهِ هُوَ الْخَبَرُ. وَقَوْلُهُ: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْخَبَرُ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا. وَالسُّوءُ هُنَا: الْعَمَلُ السَّيِّئُ. وَقَوْلُهُ: بِجَهالَةٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ صِفَةً أَوْ حَالًا. أَيْ: يَعْمَلُونَهَا مُتَّصِفِينَ بِالْجَهَالَةِ، أَوْ جَاهِلِينَ. وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ فَهِيَ بِجَهَالَةٍ عَمْدًا كَانَتْ أَوْ جَهْلًا. وَحُكِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ الْجَهَالَةَ هُنَا الْعَمْدُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ:

أُمُورُ الدُّنْيَا كُلُّهَا جَهَالَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ «٢» وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: بِجَهَالَةِ اخْتِيَارِهِمُ اللَّذَّةَ الْفَانِيَةَ عَلَى اللَّذَّةِ الْبَاقِيَةِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كُنْهَ الْعُقُوبَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ فُورَكَ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَوْلُهُ: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ مَعْنَاهُ: قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَهُمُ الْمَوْتُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ وَبِهِ قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَعِكْرِمَةُ، وَغَيْرُهُمْ، وَالْمُرَادُ: قَبْلَ الْمُعَايَنَةِ لِلْمَلَائِكَةِ وَغَلَبَةِ الْمَرْءِ عَلَى نفسه، و «من» فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَرِيبٍ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: يَتُوبُونَ بعد زَمَانٍ قَرِيبٍ، وَهُوَ مَا عَدَا وَقْتَ حُضُورِ الْمَوْتِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: قَبْلَ الْمَرَضِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، بَلْ بَاطِلٌ لِمَا قَدَّمْنَا، وَلِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: يَتُوبُونَ عَلَى قُرْبِ عَهْدٍ مِنَ الذَّنْبِ مِنْ غَيْرِ إِصْرَارٍ. قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُوَ وَعْدٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ بَيَانِهِ:

أَنَّ التَّوْبَةَ لَهُمْ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ تَصْرِيحٌ بِمَا فُهِمْ مِنْ حَصْرِ التَّوْبَةِ فِيمَا سَبَقَ عَلَى مَنْ عَمِلَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ حَتَّى:

حَرْفُ ابْتِدَاءٍ، وَالْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهَا: غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَحُضُورُ الْمَوْتِ: حُضُورُ عَلَامَاتِهِ، وَبُلُوغُ الْمَرِيضِ إِلَى حَالَةِ السِّيَاقِ، وَمَصِيرِهِ مَغْلُوبًا عَلَى نَفْسِهِ، مَشْغُولًا بِخُرُوجِهَا مِنْ بَدَنِهِ، وَهُوَ وَقْتُ الْغَرْغَرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَهِيَ بُلُوغُ رُوحِهِ حُلْقُومَهُ، قَالَهُ الْهَرَوِيُّ. وَقَوْلُهُ: قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ أَيْ: وَقْتَ حُضُورِ الْمَوْتِ. قَوْلُهُ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَيْ: لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِأُولَئِكَ وَلَا لِلَّذِينِ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُمْ رَأْسًا «٣» ، وَإِنَّمَا ذُكِرُوا مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ حَضَرَهُمُ الْمَوْتُ، وَأَنَّ وُجُودَهَا كَعَدَمِهَا.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ


(١) . النور: ٣١.
(٢) . محمد: ٣٦.
(٣) . أي: أصلا، أو: أساسا.

<<  <  ج: ص:  >  >>