للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جُرُزاً «١» أَيْ: أَرْضًا غَلِيظَةً لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، وَقَالَ تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً «٢» وقال ذو الرمة:

كأنّه بالضّحى تزمي الصّعيد به ... دبّابة فِي عِظَامِ الرَّأْسِ خُرْطُومُ «٣»

وَإِنَّمَا سُمِّيَ صَعِيدًا لِأَنَّهُ نِهَايَةُ مَا يُصْعَدُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ، وَجَمْعُ الصَّعِيدِ: صُعَدَاتٌ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يُجْزِئُ التَّيَمُّمُ بِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ: إِنَّهُ يُجْزِئُ بِوَجْهِ الْأَرْضِ كُلِّهِ تُرَابًا كَانَ أَوْ رَمْلًا أَوْ حِجَارَةً، وَحَمَلُوا قَوْلَهُ: طَيِّباً عَلَى الطَّاهِرِ الَّذِي لَيْسَ بِنَجِسٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْحَابُهُمَا: إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بِالتُّرَابِ فَقَطْ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تعالى: صَعِيداً زَلَقاً أَيْ: تُرَابًا أَمْلَسَ طَيِّبًا، وَكَذَلِكَ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: طَيِّباً قَالُوا: وَالطَّيِّبُ: التُّرَابُ الَّذِي يُنْبِتُ.

وَقَدْ تُنُوزِعَ فِي مَعْنَى الطَّيِّبِ، فَقِيلَ: الطَّاهِرُ كَمَا تَقَدَّمَ وَقِيلَ: الْمُنْبِتُ كَمَا هُنَا وَقِيلَ: الْحَلَالُ. وَالْمُحْتَمَلُ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يُتَيَمَّمُ بِهِ إِلَّا مَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، لَكَانَ الْحَقُّ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ، لَكِنْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «فضلنا النَّاسِ بِثَلَاثٍ:

جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ» وَفِي لَفْظٍ: «وَجُعِلَ تُرَابُهَا لَنَا طَهُورًا» فَهَذَا مُبَيِّنٌ لِمَعْنَى الصَّعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، أَوْ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِهِ، أَوْ مُقَيِّدٌ لِإِطْلَاقِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا حَكَاهُ ابن فارس عن كتاب الخليل: تيمم بالصعيد، أَيْ: أَخَذَ مِنْ غُبَارِهِ. انْتَهَى، وَالْحَجَرُ الصَّلْدُ لَا غُبَارَ لَهُ. قَوْلُهُ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ هَذَا الْمَسْحُ مُطْلَقٌ، يَتَنَاوَلُ الْمَسْحَ بِضَرْبَةٍ أَوْ ضَرْبَتَيْنِ، وَيَتَنَاوَلُ الْمَسْحَ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، أَوْ إِلَى الرُّسْغَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ بَيَانًا شَافِيًا، وَقَدْ جَمَعْنَا بَيْنَ مَا وَرَدَ فِي الْمَسْحِ بِضَرْبَةٍ وَبِضَرْبَتَيْنِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْمَسْحِ إِلَى الرُّسْغِ وَإِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى وَغَيْرِهِ مِنْ مُؤَلَّفَاتِنَا بِمَا لَا يَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ. قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً أَيْ: عَفَا عَنْكُمْ وَغَفَرَ لَكُمْ تَقْصِيرَكُمْ، وَرَحِمَكُمْ بِالتَّرْخِيصِ لَكُمْ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَيْكُمْ.

وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرحمن ابن عَوْفٍ طَعَامًا، فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ فَأَخَذَتِ الْخَمْرُ مِنَّا، وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْتُ:

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ: أَنَّ الَّذِي صلّى به عَبْدُ الرَّحْمَنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ، وعمر، وعليّ، وعبد الرحمن بن ابن عَوْفٍ طَعَامًا، فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ فَأَخَذَتِ الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت:


(١) . الكهف: ٨.
(٢) . الكهف: ٤٠. [.....]
(٣) . الصّعيد: التراب، والدبّابة: الخمر. والخرطوم: الخمر وصفوتها. يقول: ولد الظبية لا يرفع رأسه، وكأنه رجل سكران من ثقل نومه في وقت الضحى.

<<  <  ج: ص:  >  >>