للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سُبْحَانَهُ أَوَّلًا أَنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، وَهُنَا ذَكَرَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِجَمِيعِ مَا فِيهِ، بَلْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا. وَقَوْلُهُ: مُصَدِّقاً «١» مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ. وَالطَّمْسُ:

اسْتِئْصَالُ أَثَرِ الشَّيْءِ، ومنه فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ يُقَالُ: نَطْمِسُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا: لُغَتَانِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيُقَالُ: طَمَسَ الْأَثَرَ، أَيْ: مَحَاهُ كُلَّهُ، ومنه رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ «٢» أَيْ: أَهْلِكْهَا وَيُقَالُ: هُوَ مَطْمُوسُ الْبَصَرِ، وَمِنْهُ وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ «٣» أَيْ: أَعْمَيْنَاهُمْ.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ؟ فَيَجْعَلُ الْوَجْهَ كَالْقَفَا، فَيَذْهَبُ بِالْأَنْفِ وَالْفَمِ وَالْحَاجِبِ وَالْعَيْنِ أَوْ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّلَالَةِ فِي قُلُوبِهِمْ وَسَلْبِهِمُ التَّوْفِيقَ؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ طَائِفَةٌ، وَذَهَبَ إِلَى الْآخَرِ آخَرُونَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها نَجْعَلُهَا قَفًا، أَيْ: نَذْهَبُ بِآثَارِ الْوَجْهِ، وَتَخْطِيطِهِ، حَتَّى يَصِيرَ عَلَى هَيْئَةِ الْقَفَا وَقِيلَ: إِنَّهُ بَعْدَ الطَّمْسِ يَرُدُّهَا إِلَى مَوْضِعِ الْقَفَا، وَالْقَفَا إِلَى مَوَاضِعِهَا، وَهَذَا هُوَ أَلْصَقُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها فإن قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُهَدِّدَهُمْ بِطَمْسِ الْوُجُوهِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِهِمْ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا آمَنَ هَؤُلَاءِ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ رُفِعَ الْوَعِيدُ عَنِ الْبَاقِينَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْوَعِيدُ بَاقٍ مُنْتَظَرٌ، وَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ طَمْسٍ في اليهود، ومسخ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى أَصْحَابِ الْوُجُوهِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِاللَّعْنِ هُنَا الْمَسْخُ لِأَجْلِ تَشْبِيهِهِ بِلَعْنِ أَصْحَابِ السَّبْتِ، وَكَانَ لَعْنُ أَصْحَابِ السَّبْتِ مَسْخَهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْسُ اللَّعْنَةِ وَهُمْ مَلْعُونُونَ بِكُلِّ لِسَانٍ. وَالْمُرَادُ وُقُوعُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا الطَّمْسُ، أَوِ اللَّعْنُ. وَقَدْ وَقَعَ اللَّعْنُ، وَلَكِنَّهُ يُقَوِّي الْأَوَّلَ تَشْبِيهُ هَذَا اللَّعْنِ بِلَعْنِ أَهْلِ السَّبْتِ. قَوْلُهُ: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أَيْ: كَائِنًا مَوْجُودًا لَا مَحَالَةَ، أَوْ يُرَادُ بِالْأَمْرِ الْمَأْمُورُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مَتَى أَرَادَهُ كَانَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «٤» . قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «٥» هَذَا الْحُكْمُ يَشْمَلُ جَمِيعَ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا يَخْتَصُّ بِكُفَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالُوا: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. لا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمُشْرِكَ إِذَا مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَغْفِرَةِ الَّتِي تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهَا عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الشِّرْكِ حَسْبَمَا تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَدَاخِلُونَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:

قَدْ أَبَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ كُلَّ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، مَا لَمْ تَكُنْ كَبِيرَتُهُ شِرْكًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَظَاهِرُهُ: أَنَّ الْمَغْفِرَةَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ تَكُونُ لِمَنِ اقْتَضَتْهُ مَشِيئَتُهُ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْ ذَلِكَ الْمُذْنِبِ تَوْبَةٌ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ بِالتَّوْبَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ «٦» وَهِيَ تَدُلُّ: عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَغْفِرُ سَيِّئَاتِ مَنِ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ، فَيَكُونُ مُجْتَنِبُ الْكَبَائِرِ مِمَّنْ قَدْ شَاءَ اللَّهُ غُفْرَانَ سَيِّئَاتِهِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بن التابوت من عظماء اليهود، إذا كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لوى لسانه وقال: أرعنا


(١) . المرسلات: ٨.
(٢) . يونس: ٨٨.
(٣) . يس: ٦٦.
(٤) . يس: ٨٢.
(٥) . النساء: ٤٨.
(٦) . النساء: ٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>