للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِفَتْحِ النُّونِ وَالصَّادِ، جَعَلَهُ اسْمًا مُوَحَّدًا كَالْجَبَلِ وَالْجَمَلِ، وَالْجَمْعُ أَنْصَابٌ كَالْأَجْبَالِ وَالْأَجْمَالِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ حَوَالَيْ مَكَّةَ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَذْبَحُ بِمَكَّةَ وَتَنْضَحُ بِالدَّمِ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْبَيْتِ وَيُشَرِّحُونَ اللَّحْمَ وَيَضَعُونَهُ عَلَى الْحِجَارَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قال المسلمون للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: نَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُعَظِّمَ هَذَا الْبَيْتَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَالْمَعْنَى: وَالنِّيَّةُ بِذَلِكَ تَعْظِيمُ النُّصُبِ لَا أَنَّ الذَّبْحَ عَلَيْهَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِهَذَا قِيلَ إن عَلَى بمعنى اللام: أي لأجلها. قاله قُطْرُبٌ، وَهُوَ عَلَى هَذَا دَاخِلٌ فِيمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِتَأْكِيدِ تَحْرِيمِهِ ولدفع ما كانوا يظنونه من أن ذَلِكَ لِتَشْرِيفِ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ. قَوْلُهُ: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ: أَيْ وَحَرَّمَ عَلَيْكُمُ الِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ. وَالْأَزْلَامُ: قِدَاحُ الْمَيْسَرِ وَاحِدُهَا زَلَمٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:

بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلَامٌ كَالزَّلَمْ لَيْسَ بِرَاعِي إِبِلٍ وَلَا غَنَمْ وَلَا بِجَزَّارِ عَلَى لَحْمِ وَضَمْ وَقَالَ آخَرُ:

فَلَئِنْ جَذِيمَةُ قُتِلَتْ سَادَاتُهَا ... فَنِسَاؤُهَا يَضْرِبْنَ بِالْأَزْلَامِ

وَالْأَزْلَامُ لِلْعَرَبِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا مَكْتُوبٌ فِيهِ افْعَلْ، وَالْآخَرُ مَكْتُوبٌ فِيهِ لَا تَفْعَلْ، وَالثَّالِثُ مُهْمَلٌ لَا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه، فإذا أَرَادَ فِعْلَ شَيْءٍ أَدْخَلَ يَدَهُ وَهِيَ مُتَشَابِهَةٌ فَأَخْرَجَ وَاحِدًا مِنْهَا، فَإِنْ خَرَجَ الْأَوَّلُ فَعَلَ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ الثَّانِي تَرَكَهُ، وَإِنْ خَرَجَ الثَّالِثُ أَعَادَ الضَّرْبَ حَتَّى يَخْرُجَ وَاحِدٌ مِنَ الْأَوَّلَيْنِ. وَإِنَّمَا قِيلَ لِهَذَا الْفِعْلِ اسْتِقْسَامٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهِ الرِّزْقَ وَمَا يُرِيدُونَ فِعْلَهُ كَمَا يُقَالُ اسْتَسْقَى:

أَيْ اسْتَدْعَى السَّقْيَ. فَالِاسْتِقْسَامُ: طَلَبُ الْقِسْمِ وَالنَّصِيبِ. وَجُمْلَةُ قِدَاحِ الْمَيْسَرِ عَشَرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهَا، وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا فِي الْمُقَامَرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَزْلَامَ كِعَابُ فَارِسَ وَالرُّومِ الَّتِي يَتَقَامَرُونَ بِهَا، وَقِيلَ: هِيَ الشَّطْرَنْجُ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ لِأَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِدَعْوَى عِلْمِ الْغَيْبِ وَضَرْبٌ مِنَ الْكَهَانَةِ. قَوْلُهُ:

ذلِكُمْ فِسْقٌ إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ أَوْ إِلَى جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا. وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ عَنِ الْحَدِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَاهُ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّ الْفِسْقَ هُوَ أَشَدُّ الْكُفْرِ لَا مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اصْطِلَاحُ قَوْمٍ مِنْ أَنَّهُ مَنْزِلَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ. قَوْلُهُ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ الْمُرَادُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ، وَهُوَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الزَّمَانُ الْحَاضِرُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ، ولم يرد يوما معينا. ويئس فيه لغتان ييئس بياءين يأسا، وأيس يأيس إِيَاسًا وَإِيَاسَةً.

قَالَهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. أَيْ حَصَلَ لَهُمُ الْيَأْسُ مِنْ إِبْطَالِ دِينِكُمْ وَأَنْ يَرُدُّوكُمْ إِلَى دِينِهِمْ كَمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ فَلا تَخْشَوْهُمْ أَيْ لَا تَخَافُوا مِنْهُمْ أَنْ يَغْلِبُوكُمْ أَوْ يُبْطِلُوا دِينَكُمْ وَاخْشَوْنِ فَأَنَا الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إِنْ نَصَرْتُكُمْ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ، وَإِنْ خَذَلْتُكُمْ لَمْ يَسْتَطِعْ غَيْرِي أَنْ يَنْصُرَكُمْ. قَوْلُهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ جَعَلْتُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>