التَّقَدُّمُ، يُقَالُ فَرَطَ فُلَانٌ: أَيْ تَقَدَّمَ وَسَبَقَ إِلَى الْمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» ، وَمِنْهُ الْفَارِطُ: أَيِ الْمُتَقَدِّمُ فَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ: عَلى مَا فَرَّطْنا أَيْ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ عَجْزِنَا من التَّصْدِيقِ بِالسَّاعَةِ وَالِاعْتِدَادِ لَهَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرَيُّ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي فَرَّطْنَا فِيهَا يَرْجِعُ إِلَى الصَّفْقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ خُسْرَانُ صَفْقَتِهِمْ بِبَيْعِهِمُ الْإِيمَانَ بِالْكُفْرِ، وَالدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِي صَفْقَتِنَا، وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ فِي الْكَلَامِ فَهُوَ دَالٌّ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْخُسْرَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي صَفْقَةٍ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْحَيَاةِ:
أَيْ عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي حَيَاتِنَا. قَوْلُهُ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ: أَيْ يَقُولُونَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَيْ ذُنُوبَهُمْ، جَمْعُ وِزْرٍ: يُقَالُ: وَزَرَ يَزِرُ، فَهُوَ وَازِرٌ وَمَوْزُورٌ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْوِزْرِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا بَسَطَ ثَوْبَهُ فَجَعَلَ فِيهِ الْمَتَاعَ: احْمِلْ وِزْرَكَ: أَيْ ثِقْلَكَ، وَمِنْهُ الْوَزِيرُ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ أَثْقَالَ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ مِنْ تَدْبِيرِ الْوِلَايَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَزِمَتْهُمُ الْآثَامُ فَصَارُوا مُثْقَلِينَ بِهَا، وَجَعْلُهَا مَحْمُولَةً عَلَى الظُّهُورِ تَمْثِيلٌ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ أَيْ بِئْسَ مَا يَحْمِلُونَ. قَوْلُهُ:
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أَيْ وَمَا مَتَاعُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ مَا الدُّنْيَا مِنْ حَيْثُ هِيَ إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ. وَالْقَصْدُ بِالْآيَةِ تَكْذِيبُ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَاللَّعِبُ مَعْرُوفٌ، وَكَذَلِكَ اللَّهْوُ، وَكُلُّ مَا يَشْغَلُكَ فَقَدْ أَلْهَاكَ وَقِيلَ: أَصْلُهُ الصَّرْفُ عَنِ الشَّيْءِ. وَرَدَ بِأَنَّ اللَّهْوَ بِمَعْنَى الصَّرْفِ لَامُهُ يَاءٌ، يُقَالُ: لَهَيْتُ عَنْهُ، وَلَامُ اللَّهْوِ وَاوٌ، يُقَالُ: لَهَوْتُ بِكَذَا وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ سُمِّيَتْ آخِرَةً لِتَأَخُّرِهَا عَنِ الدُّنْيَا: أَيْ هِيَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ ذَلِكَ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «وَلَدَارُ الْآخِرَةِ» بِلَامٍ وَاحِدَةٍ وَبِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِاللَّامِ الَّتِي لِلتَّعْرِيفِ مَعَهَا، وَجَعْلِ الْآخِرَةَ نَعْتًا لَهَا وَالْخَبَرَ خَيْرٌ، وَقُرِئَ تَعْقِلُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ وَالتَّحْتِيَّةِ. قَوْلُهُ: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ هذا الكلام مُبْتَدَأٌ مَسُوقٌ لِتَسْلِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا نَالَهُ مِنَ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ بِتَكْذِيبِ الْكُفَّارِ لَهُ، وَدُخُولُ قَدْ لِلتَّكْثِيرِ فَإِنَّهَا قَدْ تَأْتِي لِإِفَادَتِهِ كَمَا تَأْتِي رُبَّ، وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ لِلشَّأْنِ، وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ يَحْزُنُكَ وَضَمِّهَا، وَقُرِئَ يُكَذِّبُونَكَ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ التَّخْفِيفِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَقَدْ خُولِفَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي هَذَا. وَمَعْنَى يُكَذِّبُونَكَ عَلَى التَّشْدِيدِ: يَنْسِبُونَكَ إِلَى الْكَذِبِ وَيَرُدُّونَ عَلَيْكَ مَا قُلْتَهُ. وَمَعْنَى الْمُخَفَّفِ: أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَكَ كَذَّابًا، يُقَالُ أَكْذَبْتُهُ: وَجَدْتُهُ كَذَّابًا، وَأَبْخَلْتُهُ: وَجَدْتُهُ بَخِيلًا.
وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنِ الْعَرَبِ: أَكْذَبْتُ الرَّجُلَ: أَخْبَرْتُ أَنَّهُ جَاءَ بِالْكَذِبِ، وَكَذَّبْتُهُ: أَخْبَرْتُ أَنَّهُ كَاذِبٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَذَّبْتُهُ إِذَا قُلْتُ لَهُ كَذَبْتَ، وَأَكْذَبْتُهُ: إِذَا أَرَدْتُ أَنَّ مَا أَتَى بِهِ كَذِبٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لَيْسَ يَرْجِعُ إِلَيْكَ فَإِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ لَكَ بِالصِّدْقِ، وَلَكِنَّ تَكْذِيبَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَا جِئْتَ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمِرِ لِزِيَادَةِ التَّوْبِيخِ لَهُمْ وَالْإِزْرَاءِ عَلَيْهِمْ، وَوَصَفَهُمْ بِالظُّلْمِ لِبَيَانِ أَنَّ هَذَا الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمْ ظُلْمٌ بَيِّنٌ. قَوْلُهُ: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا هَذَا مِنْ جُمْلَةِ التَّسْلِيَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ أَنَّ هَذَا الَّذِي وَقَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَيْكَ لَيْسَ هُوَ بِأَوَّلِ مَا صَنَعَهُ الْكُفَّارُ مَعَ مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، بَلْ قَدْ وَقَعَ التَّكْذِيبُ لِكَثِيرٍ مِنَ الرُّسُلِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلِكَ فَاقْتَدِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute