الْقِرَاءَةِ الْأُولَى. قَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ بِمَعْنَى دَارَسْتَ إِلَّا أَنَّهُ أَبْلَغَ. وَحُكِيَ عَنِ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ قَرَأَ: وَلْيَقُولُوا بِإِسْكَانِ اللَّامِ فَيَكُونُ فِيهِ مَعْنَى التهديد، أي: وليقولوا ما شاؤوا فَإِنَّ الْحَقَّ بَيِّنٌ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ أَصْلُهُ دَرَسَ يَدْرُسُ دِرَاسَةً فَهُوَ مِنَ الدَّرْسِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ وَقِيلَ مِنْ دَرَّسْتُهُ: أَيْ ذَلَّلْتُهُ بِكَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ، وَأَصْلُهُ دَرَسَ الطَّعَامَ:
أَيْ دَاسَهُ. وَالدِّيَاسُ: الدِّرَاسُ بِلُغَةِ أَهْلِ الشَّامِ وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنْ دَرَسْتُ الثَّوْبَ أَدْرُسُهُ دَرْسًا: أَيْ أَخْلَقْتُهُ، وَدَرَسَتِ الْمَرْأَةُ دَرْسًا: أَيْ حَاضَتْ، وَيُقَالُ: إِنَّ فَرْجَ المرأة يكنى أبا أدراس وهو في الْحَيْضِ، وَالدَّرْسُ أَيْضًا:
الطَّرِيقُ الْخَفِيُّ. وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ: بَعِيرٌ لَمْ يُدْرَسْ: أَيْ لَمْ يُرْكَبْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَأُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ والأعمش أنهم قرءوا دَرَسَ أَيْ دَرَسَ مُحَمَّدٌ الْآيَاتِ، وَقُرِئَ دُرِسَتْ وبه قرأ زيد ابن ثَابِتٍ: أَيِ الْآيَاتِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَدَارَسَتْ أَيْ دَارَسَتِ الْيَهُودُ مُحَمَّدًا، وَاللَّامُ فِي لِنُبَيِّنَهُ لَامُ كَيْ: أَيْ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِكَيْ نُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْآيَاتِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْقُرْآنِ، أَوْ إِلَى الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ أَوْ إِلَى التَّبْيِينِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ. قَوْلُهُ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِاتِّبَاعِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَأَنْ لَا يَشْغَلَ خَاطِرَهُ بِهِمْ، بَلْ يَشْتَغِلُ بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ، وَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِقَصْدِ تأكيد إيجاد الِاتِّبَاعِ وَأَعْرِضْ مَعْطُوفٌ عَلَى اتَّبِعْ أَمَرَهُ اللَّهُ بالإعراض عن المشركين بعد ما أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ السَّيْفِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ إِشْرَاكِهِمْ مَا أَشْرَكُوا، وَفِيهِ أَنَّ الشِّرْكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَعَارَفُ بِهِ أَهْلُ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَالْمِيزَانِ مَعْرُوفٌ فَلَا نُطِيلُ بِإِيرَادِهِ وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أَيْ: رَقِيبًا وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أَيْ: قَيِّمٍ بِمَا فِيهِ نَفْعُهُمْ فَتَجْلِبُهُ إِلَيْهِمْ، لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا إِبْلَاغُ الرِّسَالَةِ. قَوْلُهُ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ الْمَوْصُولُ عِبَارَةٌ عَنِ الْآلِهَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْبُدُهَا الْكُفَّارُ. وَالْمَعْنَى: لَا تَسُبُّ يَا مُحَمَّدُ آلِهَةَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّتِي يَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَتَسَبَّبُ عَنْ ذَلِكَ سَبُّهُمْ لِلَّهِ عُدْوَانًا وَتَجَاوُزًا عَنِ الْحَقِّ وَجَهْلًا مِنْهُمْ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْحَقِّ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْبَاطِلِ إِذَا خَشِيَ أَنْ يَتَسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ مِنَ انْتِهَاكِ حُرَمٍ، وَمُخَالَفَةِ حَقٍّ، وَوُقُوعٍ فِي بَاطِلٍ أَشَدَّ كَانَ التَّرْكُ أَوْلَى بِهِ، بَلْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَمَا أَنْفَعَ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَجَّلَ فَائِدَتِهَا لِمَنْ كَانَ مِنَ الْحَامِلِينَ لِحُجَجِ اللَّهِ الْمُتَصَدِّينَ لِبَيَانِهَا لِلنَّاسِ إِذَا كان بين قوم من الصم والبكم الَّذِينَ إِذَا أَمَرَهُمْ بِمَعْرُوفٍ تَرَكُوهُ وَتَرَكُوا غَيْرَهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَإِذَا نَهَاهُمْ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ وَفَعَلُوا غَيْرَهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ عِنَادًا لِلْحَقِّ وَبُغْضًا لاتباع المحقين وجراءة على الله سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِمْ إِلَّا السيف، وهو الحكم العدل لمن عائد الشَّرِيعَةَ الْمُطَهَّرَةَ وَجَعَلَ الْمُخَالَفَةَ لَهَا وَالتَّجَرُّؤَ عَلَى أَهْلِهَا دَيْدَنَهُ وَهَجِيرَاهُ «١» ، كَمَا يُشَاهَدُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى حَقٍّ وَقَعُوا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِذَا أُرْشِدُوا إِلَى السُّنَّةِ قَابَلُوهَا بِمَا لَدَيْهِمْ مِنَ الْبِدْعَةِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُتَلَاعِبُونَ بِالدِّينِ، الْمُتَهَاوِنُونَ بِالشَّرَائِعِ، وَهُمْ شَرٌّ مِنَ الزَّنَادِقَةِ، لِأَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِالْبَاطِلِ، وَيَنْتَمُونَ
(١) . ديدنه وهجّيراه: دأبه وعادته وما يولع بذكره.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute