وبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا: أَيْ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ، ثُمَّ نهاه الله عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالْحَقِّ، أَوْ نَهَاهُ عَنْ مُطْلَقِ الِامْتِرَاءِ وَيَكُونُ ذَلِكَ تَعْرِيضًا لِأُمَّتِهِ عَنْ أَنْ يَمْتَرِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، أَوِ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، أَيْ: فَلَا يَكُونَنَّ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ كَوْنُ الْخِطَابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ خِطَابَهُ خِطَابٌ لِأُمَّتِهِ. قَوْلُهُ:
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: كَلِمَةً، بِالتَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ: الْعِبَارَاتُ أَوْ مُتَعَلِّقَاتُهَا مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَتَمَّ وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، فَظَهَرَ الْحَقُّ وَانْطَمَسَ الْبَاطِلُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ أَوِ الْكَلِمَاتِ: القرآن، وصِدْقاً وَعَدْلًا مُنْتَصِبَانِ عَلَى التَّمْيِيزِ أَوِ الْحَالِ أَوْ عَلَى أَنَّهُمَا نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: تَمَامُ صِدْقٍ وَعَدْلٍ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لَا خُلْفَ فِيهَا وَلَا مُغَيِّرَ لِمَا حَكَمَ بِهِ، وَالْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ وَهُوَ السَّمِيعُ لِكُلِّ مَسْمُوعٍ الْعَلِيمُ بِكُلِّ مَعْلُومٍ. قَوْلُهُ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ إِذَا رَامَ طَاعَةَ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أَضَلُّوهُ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَكُونُ إلا بيد الأقلين، وهم الطائفة التي لا تَزَالُ عَلَى الْحَقِّ وَلَا يَضُرُّهَا خِلَافُ مَنْ يُخَالِفُهَا، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَكْثَرِ: الْكُفَّارُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَرْضِ: مَكَّةَ، أَيْ: أَكْثَرَ أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أَيْ: مَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ الَّذِي لَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ ظَنُّهُمْ أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَأَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَيْ وَمَا هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، أَيْ يَحْدِسُونَ وَيُقَدِّرُونَ، وَأَصْلُ الْخَرْصِ: الْقَطْعُ، وَمِنْهُ خَرَصَ النَّخْلَ يَخْرُصُ: إِذَا حَزَرَهُ لِيَأْخُذَ مِنْهُ الزَّكَاةَ، فَالْخَارِصُ يَقْطَعُ بِمَا لَا يَجُوزُ الْقَطْعُ بِهِ إِذْ لَا يَقِينَ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ أَكْثَرِ مَنْ فِي الْأَرْضِ فَالْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ، فَاتَّبِعْ مَا أَمَرَكَ بِهِ وَدَعْ عَنْكَ طَاعَةَ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْعَالِمُ بِمَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَمَنْ يَهْتَدِي إِلَيْهِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ أَعْلَمُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَى يَعْلَمُ، قَالَ:
وَمِنْهُ قَوْلُ حاتم الطائي:
تحالفت طَيُّ مِنْ دُونِنَا حِلْفًا ... وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا كنّا لهم خذلا
وَالْوَجْهُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا يَنْصِبُ الِاسْمَ الظَّاهِرَ، فَتَكُونُ مِنْ مَنْصُوبَةً بِالْفِعْلِ الَّذِي جُعِلَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ نَائِبًا عَنْهُ إِنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ عَلَى بَابِهِ وَالنَّصْبُ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ وَقِيلَ: إِنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَيْ إِنَّ رَبَّكَ أَعْلَمُ أَيُّ النَّاسِ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَقِيلَ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِنَزْعِ الْخَافِضِ: أَيْ بِمَنْ يَضِلُّ قَالَهُ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ وَقِيلَ: فِي مَحَلِّ جَرِّ بِإِضَافَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ إِلَيْهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مُفَصَّلًا قَالَ: مُبَيَّنًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله: صِدْقاً وَعَدْلًا قال: صِدْقًا فِيمَا وَعَدَ، وَعَدْلًا فِيمَا حَكَمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَأَبُو نَصْرٍ السجزي في الإبانة عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي قَوْلِهِ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ قَالَ: لَا تَبْدِيلَ لِشَيْءٍ قَالَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ: مَا يُبَدَّلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute