قَوْلُهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ أَيْ عَنْ خَلْقِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِمْ وَلَا إِلَى عِبَادَتِهِمْ لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُ كُفْرُهُمْ وَمَعَ كَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُمْ، فَهُوَ ذُو رَحْمَةٍ بِهِمْ لَا يَكُونُ غِنَاهُ عَنْهُمْ مَانِعًا مِنْ رَحْمَتِهِ لَهُمْ، وَمَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ الرَّبَّانِيَّ وَأَبْلَغَهُ! وَمَا أَقْوَى الاقتران بين الغنى والرحمن فِي هَذَا الْمَقَامِ! فَإِنَّ الرَّحْمَةَ لَهُمْ مَعَ الْغِنَى عَنْهُمْ هِيَ غَايَةُ التَّفَضُّلِ وَالتَّطَوُّلِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الْعِبَادُ الْعُصَاةُ فَيَسْتَأْصِلْكُمْ بِالْعَذَابِ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِ إِهْلَاكِكُمْ مَا يَشاءُ مِنْ خَلْقِهِ مِمَّنْ هُوَ أَطْوَعُ لَهُ وَأَسْرَعُ إِلَى امْتِثَالِ أَحْكَامِهِ مِنْكُمْ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ الْكَافُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ وَيَسْتَخْلِفُ اسْتِخْلَافًا مِثْلَ إِنْشَائِكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ، قِيلَ: هُمْ أَهْلُ سَفِينَةِ نُوحٍ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ فَلَمْ يُهْلِكْهُمْ وَلَا اسْتَخْلَفَ غَيْرَهُمْ رَحْمَةً لَهُمْ وَلُطْفًا بِهِمْ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ مِنَ الْبَعْثِ وَالْمُجَازَاةِ لَآتٍ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ بِفَائِتِينَ عَنْ مَا هُوَ نَازِلٌ بِكُمْ، وَوَاقِعٌ عَلَيْكُمْ: يُقَالُ أَعْجَزَنِي فُلَانٌ: أَيْ فَاتَنِي وغلبني. قوله: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ الْمَكَانَةُ: الطَّرِيقَةُ، أَيِ اثْبُتُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَإِنِّي غَيْرُ مُبَالٍ بِكُمْ وَلَا مُكْتَرِثٍ بِكُفْرِكُمْ، إِنِّي ثَابِتٌ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ عَلَى الْحَقِّ وَمَنْ هُوَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، فَلَا يَرِدُ مَا يُقَالُ كَيْفَ يأمرهم بالثبات على الكفر؟ وعاقِبَةُ الدَّارِ هِيَ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ الَّتِي يُحْمَدُ صَاحِبُهَا عَلَيْهَا: أَيْ مَنْ لَهُ النَّصْرُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَمَنْ لَهُ وِرَاثَةُ الْأَرْضِ، وَمَنْ لَهُ الدَّارُ الْآخِرَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى مَكَانَتِكُمْ: تَمَكُّنُكُمْ فِي الدُّنْيَا، أَيِ اعْمَلُوا عَلَى تَمَكُّنِكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَقِيلَ: عَلَى نَاحِيَتِكُمْ، وَقِيلَ: عَلَى مَوْضِعِكُمْ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: مَنْ يَكُونُ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ:
بِالْفَوْقِيَّةِ. وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لِلشَّأْنِ، أَيْ: لَا يُفْلِحُ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الظُّلْمِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ لَهُمْ بِعَدَمِ فَلَاحِهِمْ لِكَوْنِهِمُ الْمُتَّصِفِينَ بِالظُّلْمِ. قَوْلُهُ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً هَذَا بَيَانُ نوع آخر من أنواع كفرهم وجهلهم وإيثارهم لِآلِهَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ: أَيْ جَعَلُوا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مِمَّا خَلَقَ مِنْ حَرْثِهِمْ وَنِتَاجِ دَوَابِّهِمْ نَصِيبًا وَلِآلِهَتِهِمْ نَصِيبًا مِنْ ذَلِكَ يَصْرِفُونَهُ فِي سَدَنَتِهَا وَالْقَائِمِينَ بِخِدْمَتِهَا، فَإِذَا ذَهَبَ مَا لِآلِهَتِهِمْ بِإِنْفَاقِهِ فِي ذَلِكَ عَوَّضُوا عَنْهُ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ، وَقَالُوا: اللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ. وَالزَّعْمُ: الْكَذِبُ. قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالسُّلَمِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ بِزَعْمِهِمْ بِضَمِّ الزَّايِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أَيْ إِلَى الْمَصَارِفِ الَّتِي شَرَعَ اللَّهُ الصَّرْفَ فِيهَا كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute