للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، أَيْ: أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ فَامْتَثَلُوا الْأَمْرَ، وَفَعَلُوا السُّجُودَ بَعْدَ الْأَمْرِ إِلَّا إِبْلِيسَ قِيلَ:

الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ بِتَغْلِيبِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى إِبْلِيسَ لِأَنَّهُ كَانَ مُنْفَرِدًا بَيْنَهُمْ، أَوْ كَمَا قِيلَ: لِأَنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جِنْسًا يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي الْبَقَرَةِ. قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمَا فُهِمَ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ وَمَنْ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعًا قَالَ مَعْنَاهُ: لَكِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَجُمْلَةُ قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ فَمَاذَا قال له الله؟ ولا في أَلَّا تَسْجُدَ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سورة ص ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ «١» وَقِيلَ: إِنَّ مَنَعَ بِمَعْنَى قَالَ، وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ قَالَ لَكَ أَنْ لَا تَسْجُدَ؟ وَقِيلَ: مَنَعَ بِمَعْنَى دَعَا، أَيْ: مَا دَعَاكَ إِلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ؟

وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ الطَّاعَةِ وَأَحْوَجَكَ إِلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ أَيْ:

وَقْتَ أَمَرْتُكَ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْفَوْرِ، وَالْبَحْثُ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَا مَنَعَكَ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَإِلَّا فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِذَلِكَ، وَجُمْلَةُ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا قَالَ إِبْلِيسُ؟ وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْجَوَابِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَقُلْ: مَنَعَنِي كَذَا، لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُسْتَأْنَفَةٌ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَانِعِ وَهُوَ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَالْفَاضِلُ لَا يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ لِلْمَفْضُولِ مَعَ مَا تُفِيدُهُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ إِنْكَارِ أَنْ يُؤْمَرَ مِثْلُهُ بِالسُّجُودِ لِمِثْلِهِ. ثُمَّ عَلَّلَ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ:

خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ اعْتِقَادًا مِنْهُ أَنَّ عُنْصُرَ النَّارِ أَفْضَلُ مِنْ عُنْصُرِ الطِّينِ. وَقَدْ أَخْطَأَ عَدُوُّ اللَّهِ فَإِنَّ عُنْصُرَ الطِّينِ أَفْضَلُ مِنْ عُنْصُرِ النَّارِ مِنْ جِهَةِ رَزَانَتِهِ وسكونه وطول بقائه وهي خفيفة مُضْطَرِبَةٌ سَرِيعَةُ النَّفَادِ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ «٢» مَوْجُودٌ فِي الْجَنَّةِ دُونَهَا، وَهِيَ «٣» عَذَابٌ دُونَهُ، وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ لِتَتَحَيَّزَ فِيهِ، وَهُوَ مَسْجِدٌ وَطَهُورٌ، وَلَوْلَا سَبْقُ شَقَاوَتِهِ «٤» وَصِدْقِ كَلِمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ لَكَانَ لَهُ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُطِيعِينَ لِهَذَا الْأَمْرِ أُسْوَةٌ وَقُدْوَةٌ، فَعُنْصُرُهُمُ النُّورِيُّ أَشْرَفُ مِنْ عُنْصُرِهِ النَّارِيِّ، وَجُمْلَةُ قالَ فَاهْبِطْ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ لِلْأَمْرِ، أَيِ: اهْبِطْ مِنَ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْمُطِيعِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَقَرُّ مَنْ يَعْصِي وَيُطِيعُ، فَإِنَّ السَّمَاءَ لَا تَصْلُحُ لِمَنْ يَتَكَبَّرُ وَيَعْصِي أَمْرَ رَبِّهِ مِثْلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها. وَمِنَ التفاسير الباطلة ما قيل: إن معنى فَاهْبِطْ مِنْها أَيْ أَخْرِجْ مِنْ صُورَتِكِ النَّارِيَّةِ الَّتِي افتخرت بها إلى صُورَةً مُظْلِمَةً مُشَوَّهَةً وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُبُوطُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَقِيلَ: مِنْ زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُمْلَةُ فَاخْرُجْ لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ، وَجُمْلَةُ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ، أَيْ: إِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الصَّغَارِ وَالْهَوَانِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى صَالِحِي عِبَادِهِ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ تَرَدَّى بِرِدَاءِ الِاسْتِكْبَارِ عُوقِبَ بِلُبْسِ رِدَاءِ الْهَوَانِ وَالصَّغَارِ. وَمَنْ لَبِسَ رِدَاءَ التَّوَاضُعِ ألبسه الله رداء الترفع،


(١) . ص: ٧٥.
(٢) . أي: الطين. [.....]
(٣) . أي: النار.
(٤) . أي: إبليس.

<<  <  ج: ص:  >  >>