وقيل معنى: فَدَلَّاهُما دَلَّلَهُمَا مِنَ الدَّالَّةِ، وَهِيَ الْجُرْأَةُ: أَيْ جَرَّأَهُمَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَخَرَجَا مِنَ الْجَنَّةِ.
قَوْلُهُ: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أَيْ: لَمَّا طَعِمَاهَا ظَهَرَتْ لَهُمَا عَوْرَاتُهُمَا بِسَبَبِ زَوَالِ مَا كَانَ سَاتِرًا لَهَا وَهُوَ تَقَلُّصُ النُّورِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ. قَوْلُهُ: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ طَفِقَ يَفْعَلُ كَذَا: بِمَعْنَى شَرَعَ يَفْعَلُ كَذَا. وَحَكَى الْأَخْفَشُ: طَفِقَ يَطْفِقُ مِثْلَ ضَرِبَ يَضْرِبُ، أَيْ: شَرَعَا أَوْ جَعَلَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا. قَرَأَ الْحَسَنُ «يَخِصِّفَانِ» بِكَسْرِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَالْأَصْلُ: يَخْتَصِفَانِ فَأَدْغَمَ وَكُسِرَتِ الْخَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ بُرَيْدَةَ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْخَاءِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ «يُخْصِفَانِ» مِنْ أَخْصَفَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَخْصِفَانِ» مِنْ خَصَفَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمَا أَخَذَا يَقْطَعَانِ الْوَرَقَ وَيُلْزِقَانِهِ بِعَوْرَتِهِمَا لِيَسْتُرَاهَا، مِنْ خَصَفَ النَّعْلَ: إِذَا جَعَلَهُ طَبَقَةً فَوْقَ طَبَقَةٍ وَناداهُما رَبُّهُما قَائِلًا لَهُمَا:
أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَيْتُكُمَا عَنْ أَكْلِهَا، وَهَذَا عِتَابٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمَا وَتَوْبِيخٌ حَيْثُ لَمْ يَحْذَرَا مَا حَذَّرَهُمَا مِنْهُ وَأَقُلْ لَكُما مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْهَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ أَيْ مُظْهِرٌ لِلْعَدَاوَةِ. قَوْلُهُ: قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَا؟ وَهَذَا مِنْهُمَا اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ، وَأَنَّهُمَا ظَلَمَا أَنْفَسَهُمَا مِمَّا وَقَعَ مِنْهُمَا مِنَ الْمُخَالَفَةِ، ثُمَّ قَالَا: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ، وَجُمْلَةُ قالَ اهْبِطُوا اسْتِئْنَافٌ كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَالْخِطَابُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ وَذُرِّيَّتِهِمَا، أَوْ لَهُمَا وَلِإِبْلِيسَ، وَجُمْلَةُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أَيْ مَوْضِعُ اسْتِقْرَارٍ وَلكم مَتاعٌ تَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَتَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ الْمَطْعَمِ وَالْمُشْرَبِ وَنَحْوِهِمَا إِلى حِينٍ أَيْ: إِلَى وَقْتٍ، وَهُوَ وَقْتُ مَوْتِكُمْ، وَجُمْلَةُ قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَالَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ: فِي الْأَرْضِ تَحْيَوْنَ، وَفِيهَا يَأْتِيكُمُ الْمَوْتُ، وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى «١» وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مُسْتَوْفًى فِي الْبَقَرَةِ فَارْجِعْ إِلَيْهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ وهب ابن مُنَبِّهٍ فِي قَوْلِهِ: لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما قَالَ: كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نُورٌ لَا يُبْصِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَوْءَةَ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا أَصَابَا الْخَطِيئَةَ نُزِعَ عَنْهُمَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَاهُمَا إِبْلِيسٌ فَقَالَ: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ مِثْلَهُ، يَعْنِي مِثْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمْ يُصَدِّقَاهُ حَتَّى دَخَلَ فِي جَوْفِ الْحَيَّةِ فَكَلَّمَهُمَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ فَإِنْ أَخْطَأَكُمَا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ لَمْ يُخْطِئْكُمَا أَنْ تَكُونَا خَالِدَيْنِ فَلَا تَمُوتَانِ فِيهَا أَبَدًا وَقاسَمَهُما قَالَ: حَلَفَ لَهُمَا إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ قَالَ: مَنَّاهُمَا بِغُرُورٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لِبَاسُ كُلِّ دَابَّةٍ مِنْهَا، وَلِبَاسُ الْإِنْسَانِ الظُّفْرُ، فَأَدْرَكَتْ آدَمَ التَّوْبَةُ عِنْدَ ظُفْرِهِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبيهقي وابن عساكر عن ابن
(١) . طه: ٥٥.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute