يَأْتِي تَأْوِيلُهُ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ: تَرَكُوهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ تَأْوِيلُهُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ الَّذِي أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ إِلَيْنَا فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ اسْتِفْهَامٌ مِنْهُمْ، وَمَعْنَاهُ التَّمَنِّي فَيَشْفَعُوا لَنا مَنْصُوبٌ لِكَوْنِهِ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ. قَوْلُهُ أَوْ نُرَدُّ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَوْ هَلْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نُرَدُّ: عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: هَلْ يَشْفَعُ لَنَا أَحَدٌ أَوْ نُرَدُّ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ بِنَصْبِهِمَا، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَقُلْتُ لَهُ: لَا تَبْكِ عَيْنُكَ، إِنَّمَا ... نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتُ فَنُعْذَرَا
وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِرَفْعِهِمَا، وَمَعْنَى الْآيَةِ: هَلْ لَنَا شُفَعَاءُ يُخَلِّصُونَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، أَوْ هَلْ نُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا فَنَعْمَلَ صَالِحًا غَيْرَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنَ الْمَعَاصِي قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي: لن يَنْتَفِعُوا بِهَا فَكَانَتْ أَنْفُسُهُمْ بَلَاءً عَلَيْهِمْ وَمِحْنَةً، فَكَأَنَّهُمْ خَسِرُوهَا كَمَا يَخْسَرُ التَّاجِرُ رَأْسَ مَالِهِ وَقِيلَ: خَسِرُوا النَّعِيمَ وَحَظَّ الْأَنْفُسِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيِ: افْتِرَاؤُهُمْ أَوِ الَّذِي كَانُوا يَفْتَرُونَهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ بَطَلَ كَذِبُهُمُ الَّذِي كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ غَابَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا لِلَّهِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ وَلَا حَضَرَ مَعَهُمْ. قَوْلُهُ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ هَذَا نَوْعٌ مِنْ بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ وَجَلِيلِ قَدْرَتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِيجَادِ الَّذِي يُوجِبُ عَلَى الْعِبَادِ تَوْحِيدَهُ وَعِبَادَتَهُ. وَأَصْلُ سِتَّةَ سِدْسَةُ أُبْدِلَتِ التَّاءُ مِنْ أَحَدِ السِّينَيْنِ وَأُدْغِمَ فِيهَا الدَّالُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا: أَنَّكَ تَقُولُ فِي التَّصْغِيرِ: سُدَيْسَةُ، وفي الجمع: أسداس، وتقول: جاء فلان سَادِسًا. وَالْيَوْمُ: مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا، قِيلَ: هَذِهِ الْأَيَّامُ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَقِيلَ: مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ السِّتُّ أَوَّلُهَا: الْأَحَدُ، وَآخِرُهَا: الْجُمُعَةُ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِهَا فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، يَقُولُ لَهَا كَوْنِي فَتَكُونُ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَ عِبَادَهُ الرِّفْقَ وَالتَّأَنِّيَ فِي الْأُمُورِ، أَوْ خَلَقَهَا فِي سِتَّةِ أيام لكون شَيْءٍ عِنْدَهُ أَجَلًا، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ «١» . قَوْلُهُ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ: قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذَا عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا، وَأَحَقُّهَا وَأَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ:
مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ أنه استوى سبحانه عليه بلا كيف عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ مَعَ تَنَزُّهِهِ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِوَاءُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: هُوَ الْعُلُوُّ وَالِاسْتِقْرَارُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ، أَيِ: اسْتَقَرَّ، وَاسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، أَيْ: صَعِدَ، وَاسْتَوَى، أَيِ: اسْتَوْلَى وَظَهَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
وَاسْتَوَى الرجل، أي: انتهى شبابه، واستوى، أي: اتّسق وَاعْتَدَلَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ مَعْنَى (استوى) هنا: علا، ومثله قول الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة ... وَقَدْ حَلَّقَ النَّجْمُ الْيَمَانِيُّ فَاسْتَوَى
أَيْ عَلَا وَارْتَفَعَ. وَالْعَرْشُ: قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ سَرِيرُ الْمَلِكِ. وَيُطْلَقُ الْعَرْشُ عَلَى مَعَانٍ أُخَرَ مِنْهَا عَرْشُ
(١) . ق: ٣٨.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute