الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى خَارِجٌ عَنْ طَوْقِ الْبَشَرِ، وَأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَوَصَلُوا بِالشَّرِّ إِلَى الْخَيْرِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ أَتْبَاعِ فِرْعَوْنَ مَا حَصَلَ مِنْهُمْ مِنَ الْإِذْعَانِ وَالِاعْتِرَافِ وَالْإِيمَانِ، وَإِذَا كَانَتِ الْمَهَارَةُ فِي عِلْمِ الشَّرِّ قَدْ تَأْتِي بِمِثْلِ هَذِهِ الْفَائِدَةِ فَمَا بَالُكَ بِالْمَهَارَةِ فِي عِلْمِ الْخَيْرِ، اللَّهُمَّ انْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا عَلَى الْحَقِّ، وَأَفْرِغْ عَلَيْنَا سِجَالَ الصَّبْرِ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ. قَوْلُهُ: وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ مِنْهُمْ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، أَيْ: أَتَتْرُكُهُ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ وَتَشْتِيتِ الشَّمْلِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ هُنَا: أَرْضُ مِصْرَ. قَوْلُهُ: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَرَأَ نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ «وَيَذَرُكَ» بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: وَهُوَ يَذَرُكَ أَوْ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى أَتَذَرُ مُوسى:
أَيْ: أَتَذَرُهُ وَيَذَرُكَ، وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعَقِيلِيُّ وَيَذَرَكَ بِالْجَزْمِ: إِمَّا عَلَى التَّخْفِيفِ بِالسُّكُونِ لِثِقْلِ الضَّمَّةِ، أَوْ عَلَى مَا قِيلَ فِي وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ فِي تَوْجِيهِ الْجَزْمِ. وَقَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ «وَنَذَرَكَ» بِالنُّونِ وَالرَّفْعِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ سَيَذَرُوَنَهُ وَآلِهَتَهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «وَيَذَرَكَ» بِالنَّصْبِ بِأَنْ مُقَدَّرَةً عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاوُ نَائِبَةٌ عَنِ الْفَاءِ أَوْ عَطْفًا عَلَى لِيُفْسِدُوا أَيْ: لِيُفْسِدُوا وَلِيَذَرَكَ، لِأَنَّهُمْ عَلَى الْفَسَادِ فِي زَعْمِهِمْ، وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ فِرْعَوْنَ وَآلِهَتِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى وَآلِهَتَكَ لِكَوْنِ فِرْعَوْنَ كَانَ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي، وَقَوْلِهِ: أَنَا رَبُّكُمْ فَقِيلَ مَعْنَى وَآلِهَتَكَ: وَطَاعَتَكَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَعِبَادَتَكَ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ «وَإِلَهَتَكَ» وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ «أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَقَدْ تَرَكُوكَ أَنْ يَعْبُدُوكَ» وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَعْبُدُ بَقَرَةً، وَقِيلَ: كَانَ يَعْبُدُ النُّجُومَ، وَقِيلَ: كَانَ لَهُ أَصْنَامٌ يَعْبُدُهَا قَوْمُهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ.
فَقَالَ فِرْعَوْنُ مُجِيبًا لَهُمْ ومُثَبِّتًا لِقُلُوبِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ «سَنَقْتُلُ» بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: سَنُقَتِّلُ الْأَبْنَاءَ وَنَسْتَحْيِي النِّسَاءَ، أَيْ: نَتْرُكُهُنَّ فِي الْحَيَاةِ، وَلَمْ يَقُلْ سَنُقَتِّلُ مُوسَى لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أَيْ: مُسْتَعْلُونَ عَلَيْهِمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، أَوْ هُمْ تَحْتَ قَهْرِنَا وَبَيْنَ أَيْدِينَا، مَا شِئْنَا أَنْ نَفْعَلَهُ بِهِمْ فَعَلْنَاهُ، وَجُمْلَةُ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ مستأنفة، جواب سؤال مقدّر. بما بَلَغَ مُوسَى مَا قَالَهُ فِرْعَوْنُ أَمَرَ قَوْمَهُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمِحْنَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ إِنَّ الْأَرْضَ يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَوْ جِنْسَ الْأَرْضِ، وَهُوَ وَعْدٌ مِنْ مُوسَى لِقَوْمِهِ بِالنَّصْرِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيُوَرِّثُهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ. ثم بشرهم بأن الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، أَيِ:
الْعَاقِبَةَ الْمَحْمُودَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِلْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُمْ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ. وَعَاقِبَةُ كُلِّ شَيْءٍ آخِرُهُ. وَقُرِئَ «وَالْعَاقِبَةَ» بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْأَرْضِ، وَجُمْلَةُ قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا مُسْتَأْنَفَةٌ: جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَالَّتِي قَبْلَهَا أَيْ أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا رَسُولًا وَذَلِكَ بِقَتْلِ فِرْعَوْنَ أَبْنُاءَنَا عِنْدَ مَوْلِدِكَ لَمَّا أَخْبَرَ بِأَنَّهُ سَيُولَدُ مَوْلُودٌ يَكُونُ زَوَالُ مُلْكِهِ عَلَى يَدِهِ وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا رَسُولًا بِقَتْلِ أَبْنَائِنَا الْآنَ وَقِيلَ الْمَعْنَى: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا بِاسْتِعْمَالِنَا فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ بِغَيْرِ جُعْلٍ وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا بِمَا صرنا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute