وَوَجْهُ تَعْرِيفِ الْحَسَنَةِ أَنَّهَا كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ، وَوَجْهُ تَنْكِيرِ السَّيِّئَةِ نُدْرَةُ وُقُوعِهَا. قَوْلُهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: سَبَبُ خَيْرِهِمْ وَشَرِّهِمْ بجميع ما ينالهم من خصب وقحط مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ بِسَبَبِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، وَكَانَ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى نَمَطِ مَا يَعْتَقِدُونَهُ وَبِمَا يَفْهَمُونَهُ، وَلِهَذَا عَبَّرَ بِالطَّائِرِ عَنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ الَّذِي يَجْرِي بِقَدَرِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِهَذَا بَلْ يَنْسِبُونَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ جَهْلًا مِنْهُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ طَيْرُهُمْ قَوْلُهُ وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ الْخَلِيلُ: أَصْلُ مَهْمَا «مَا» الشَّرْطِيَّةُ زِيدَتْ عَلَيْهِ «مَا» الَّتِي لِلتَّوْكِيدِ، كَمَا تُزَادُ فِي سَائِرِ الْحُرُوفِ مِثْلَ:
حَيْثُمَا وَأَيْنَمَا وَكَيْفَمَا وَمَتَى مَا، وَلَكِنَّهُمْ كَرِهُوا اجْتِمَاعَ الْمِثْلَيْنِ فَأَبْدَلُوا أَلِفَ الْأُولَى هَاءً. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَصْلُهُ مَهْ أَيِ: اكْفُفْ مَا تَأْتِينَا بِهِ مِنْ آيَةٍ، وَزِيدَتْ عَلَيْهَا «مَا» الشَّرْطِيَّةُ وَقِيلَ: هِيَ كَلِمَةٌ مُفْرَدَةٌ يُجَازِي بِهَا، وَمَحَلُّ مَهْمَا الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَوِ النَّصْبُ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ ما بعدها، ومن آيَةٍ: لِبَيَانِ مَهْمَا، وَسَمَّوْهَا آيَةَ اسْتِهْزَاءٍ بِمُوسَى كَمَا يُفِيدُهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ لِتَسْحَرَنا بِها أَيْ: لِتَصْرِفَنَا عَمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُهُ السَّحَرَةُ بِسِحْرِهِمْ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ إِلَى مَهْمَا، وَالضَّمِيرُ فِي بِهَا عَائِدٌ إِلَى آيَةٍ وَقِيلَ: إِنَّهُمَا جَمِيعًا عَائِدَانِ إِلَى مَهْمَا، وَتَذْكِيرُ الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ، وَتَأْنِيثُ الثَّانِي بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ جَوَابُ الشَّرْطِ، أَيْ: فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُصَدِّقِينَ، أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا يَجِيءُ بِهِ من الآيات التي هي زَعْمِهِمْ مِنَ السِّحْرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَزَلَتْ بِهِمُ الْعُقُوبَةُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمُبَيَّنَةُ بِقَوْلِهِ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَهُوَ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ.
قَالَ الْأَخْفَشُ: وَاحِدُهُ طُوفَانَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ، كَالرُّجْحَانِ وَالنُّقْصَانِ فَلَا وَاحِدَ لَهُ، وَقِيلَ: الطُّوفَانُ:
الْمَوْتُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: الطُّوفَانُ فِي اللُّغَةِ مَا كَانَ مُهْلِكًا مِنْ مَوْتٍ أَوْ سَيْلٍ، أَيْ: مَا يُطِيفُ بِهِمْ فَيُهْلِكُهُمْ وَالْجَرادَ هُوَ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ أَرْسَلَهُ اللَّهُ لِأَكْلِ زُرُوعِهِمْ فَأَكَلَهَا وَالْقُمَّلَ قِيلَ: هِيَ الدَّبَّاءُ وَالدَّبَّاءُ: الْجَرَادُ قَبْلَ أَنْ تَطِيرَ، وَقِيلَ: هِيَ السُّوسُ، وَقِيلَ: الْبَرَاغِيثُ، وَقِيلَ: دَوَابُّ سُودٌ صِغَارٌ، وَقِيلَ:
ضَرْبٌ مِنَ الْقِرْدَانِ، وَقِيلَ: الْجُعْلَانِ. قَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْقَمْلَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُشَدَّدَةً. وَقَدْ فَسَّرَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ «الْقُمَّلَ» بِالْقَمْلِ، وَالضَّفادِعَ جَمْعُ ضُفْدَعٍ وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَاءِ وَالدَّمَ رُوِيَ أَنَّهُ سَالَ النِّيلُ عَلَيْهِمْ دَمًا، وَقِيلَ: هُوَ الرُّعَافُ. قَوْلُهُ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ أَيْ: مُبَيَّنَاتٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَالَ كَوْنِهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ظَاهِرَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا أَيْ: تَرَفَّعُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى حَقٍّ وَلَا يَنْزِعُونَ عَنْ بَاطِلٍ، قَوْلُهُ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أَيِ: الْعَذَابُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقُرِئَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا الرِّجْزُ طَاعُونًا مَاتَ بِهِ مِنَ الْقِبْطِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سبعون ألفا قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أَيْ: بِمَا اسْتَوْدَعَكَ مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ بِمَا اخْتَصَّكَ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ أَوْ بِمَا عَهِدَ إِلَيْكَ أَنْ تَدْعُوَ بِهِ فَيُجِيبُكَ، وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِادْعُ، عَلَى مَعْنَى: أَسْعِفْنَا إِلَى مَا نَطْلُبُ مِنَ الدُّعَاءِ، بِحَقِّ مَا عِنْدَكَ مِنْ عَهْدِ اللَّهِ، أَوِ ادْعُ لَنَا مُتَوَسِّلًا إِلَيْهِ بِعَهْدِهِ عِنْدَكَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ لِلْقَسَمِ، وَجَوَابُهُ لَنُؤْمِنَنَّ أَيْ: أَقْسَمْنَا بِعَهْدِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute