[كيفية التأصيل العلمي لمن هو مشغول بعمل من الأعمال]
وقبل أن يقرأ الأخ هناك بعض الإخوة كان يسأل عن مسألة التأصيل العلمي ويقول: إن التأصيل العلمي نحن مقتنعون به اقتناعاً تاماً، لكن كثيراً منا موظف مثلاً، أو مرتبط بأعمال، أو يكون لديه ظروف ولا يحصل لديه إلا وقت معين ومحدود للقراءة والاطلاع، فكيف يتم التأصيل في هذه الحال.
و
الجواب
أن مسألة التأصيل ليست راجعة لوظيفة الإنسان وليست راجعة لكون الإنسان متفرغاً أو غير متفرغ، وليست راجعة لكون الإنسان عنده أشغال أو ليست عنده أشغال، فلو أنك تعطي العلم كل يوم ساعة واحدة، فيمكن لك أن تؤصل نفسك تأصيلاً علمياً، فأظن أن ساعة واحدة كفيلة بأن تخرج منه طالب علم ممتاز، لكن بشرطين: الشرط الأول: الصبر.
والشرط الثاني: الاستمرار.
فلابد من الصبر والاستمرار؛ لأنه إذا لم يكن هناك صبر فسيضعف الإنسان، وإذا لم يكن هناك استمرار فسينقطع المرء، فبعد مجموعة من الشهور أو بعد سنة أو سنتين سينقطع، وينسى كل ما حفظه أو درسه خلال هذه الفترة، ويتصور أن الإنسان يمكنه أن يعطي ساعتين في اليوم للعلم، فإذا كان عنده قدرة أن يعطي ساعتين في اليوم لطلب العلم فإنها تصير في الأسبوع أربع عشرة ساعة، فتستطيع في هذا الزمن أن تؤدي أعمالاً كثيرة جداً، ويمكن أن تقسمها إلى ثلاثة أقسام: قسم تجعله للحفظ، وقسم تجعله للدراسة والفهم، ومعنى الدراسة: التدقيق في المسائل التي أنت تدرسها، وقسم تجعله للتثقيف والاطلاع.
فالأربع عشرة ساعة هذه التي قسمناها على ثلاثة تصير أربع ساعات وكسور في الأسبوع للحفظ، فستجعلك تحفظ شيئاً كبيراً.
وأهم شيء هو أن الإنسان لا يمل ولا يستعجل، فلنفترض أن الإنسان سيبدأ يدرس في الفقه مثلاً، فأخذ كتاباً مثل (بلوغ المرام)، وفيه أكثر من ألف وخمسمائة حديث، فلو أنك في كل يوم تحفظ وتفهم ثلاثة أحاديث أو حديثين فسيجتمع لك في الأسبوع أربعة عشر حديثاً، وفي الشهر اثنان وأربعون حديثاً، وفي عشرة أشهر أربعمائة وعشرون حديثاً، وهذا تقريباً ثلث الكتاب، فحفظ ثلث الكتاب في عشرة أشهر ليس أمراً هيناً، فأهم شيء هو أن تحفظ وتضبط وتراجع، بحيث إنه يستمر العلم معك.
نفترض أنك بدأت في شهر محرم، فإذا انتهيت من شهر محرم وجئت إلى محفوظ شهر صفر فلا تنس شهر محرم، ولابد أن تراجعه، والمراجعة أسهل من الدرس الجديد؛ لأنك أصلاً ضابط وتحتاج إلى مراجعة فقط، والمراجعة يمكن أن تحصل لك وأنت في السيارة، وممكن أن تحصل لك وأنت في أي مكان من الأماكن، وممكن أن تحصل لك وأنت ذاهب إلى أداء أي غرض من الأغراض، والمراجعة هي التي ترسخ المحفوظ.
إذاً: خلال ثلاث سنوات ستنتهي بإذن الله من (بلوغ المرام) حفظاً ودراسة، لكن المشكلة هي أن بعض الإخوان لا يصبر أو لا يستمر، فيتحمس الشهر الأول والشهر الثاني، وفي الشهر الثالث ينقطع، أو إذا استمر لا يراجع، فإذا بدأ في شهر محرم لا يجيء شهر رمضان إلا وقد نسي كل الأشهر السابقة، مثل الدروس العلمية الموجودة عندنا الآن، تجد أن الشباب يحضرون هذه الدروس وربما يقيد الواحد منهم كثيراً من المعلومات التي يسمعها، فإذا خرج من المسجد نسي الدرس حتى يأتي الأسبوع القادم، فيأخذ المذكرة ويأتي مرة أخرى إلى الدرس، فبهذه الطريقة لن يستطيع الإنسان أن يؤصل نفسه علمياً.
فقد جاء أبو حنيفة إلى حماد بن أبي سليمان -وكان فقيهاً مشهوراً بالكوفة- فسأله عن طلب العلم، قال: احفظ كل يوم مسألة أو قال مسألتين أو ثلاث مسائل سيحصل لك بعد زمن علم كثير.
وصدق! فلو حفظت كل يوم مسألة فسيحصل لك بعد سنة أكثر من ثلاثمائة مسألة، وهذا ليس أمراً هيناً، فإذا كان هذا خلال عشر سنوات فسيحصل لك ثلاثة آلاف وستمائة مسألة، فأهم شيء هو أن يكون ضبطك مستمراً لمحفوظك ولمسائلك العلمية، ويكون في نفس الوقت عندك صبر وجلد، وتعود نفسك على ألا تسأم ولا تمل، فالسأم والملل لا يمكن أن يكونا رفيقين لطالب العلم، فإذا كان هناك سأم وملل فسينقطع الإنسان.
وبعض الناس تشغله الأمور، فمثلاً: يبدأ في درس فيسمع درساً آخر فينصرف إليه، ثم يسمع عن درس ثالث فيترك هذا الدرس إلى ذاك الدرس، فتجد أنه في العام الواحد لديه ما لا يقل عن أربعة إلى خمسة دروس لكنه لم يكملها ولم يتمها، وحتى لو كان عنده أشرطة فما ضبطها ولا أتمها وهكذا، فبهذه الطريقة التي ذكرتها سيحصل الإنسان خيراً كثيراً وعلماً كثيراً بإذن الله تعالى.