[شبه المتكلمين في رد حديث الآحاد وشروطهم في قبول المتواتر]
قال المصنف رحمه الله تعالى:[ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه].
السنة مصدر من مصادر التشريع، وهي مستقلة بذاتها، فالسنة مصدر من مصادر الأحكام الشرعية: سواء في العقيدة أو في الأحكام، وهذا فيه رد على أهل الكلام المبتدعة الذين يقسمون السنة إلى متواتر وآحاد، فيقولون: الآحاد لا تقبل في باب العقائد؛ لأنها من الظنيات، والظنيات لا تقبل في العقيدة؛ لأن العقيدة قطعية، وهذا تعليل عقلي غير صحيح، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرسل بالتوحيد -وهو أساس العقيدة- أرسل إلى ملوك العالم أفراداً، فأرسل إلى هرقل: عبد الله بن حذافة السهمي وأرسل إلى المقوقس: عمرو بن أمية الضمري، فهو أفراد، وأرسل إلى القبائل رسلاً أفراداً، وأرسل معاذاً إلى اليمن من أجل أن يعلم الناس العقيدة والأحكام، وهو فرد واحد، ولهذا ففكرة أن العقيدة لا تؤخذ إلا من المتواتر هذه فكرية بدعية ضالة، والحقيقة يا إخوان أن المنهج الكلامي أخطر وأعمق بكثير مما نتصور، فقولهم لا يقف عند حد أن الأحاديث الآحاد لا تقبل في العقيدة فقط، بل هم في الحقيقة موقفهم من النصوص الشرعية موقف سلبي للغاية، فهم يقسمون النصوص إلى قسمين: نصوص متواترة، وهي التي ينقلها جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب، ونصوص آحاد، وهي التي ينقلها فرد أو فردان أو ثلاثة أو أربعة، فيقولون: الآحاد هذه لا تقبل في العقيدة، إذاً فقد أخرجوا تقريباً أكثر من ثمانية أعشار السنة، وقالوا: هذه لا تقبل في العقيدة؛ لأنها ظنية، ثم جاءوا إلى المتواتر، وهو النصوص القرآنية وبعض الأحاديث النبوية التي وردت متواترة، فهذه الأدلة المتواترة قد صارت من الأمور التي يحتج بها من حيث الثبوت، فجاءوا وقالوا: أما الدلالة فإنها ظنية لا تقبل إلا بتجاوز عشر عقبات وهي: ألا يكون هناك مجاز، وألا يكون هناك احتمال في النص، وأن يكون الموضوع نصاً وليس بظاهر، وقالوا: إنه لو وجد المعارض العقلي وحده لكان كافياً في ردها، إذاً: ماذا يبقى من النصوص؟ فالآحاد لا تقبل لأنها ظنية من حيث الثبوت، والمتواتر أيضاً لا يقبل عندهم حتى يتجاوز عشر عقبات، فلا يمكن أن يخرجوا لنا نصاً واحداً يتجاوز هذه العقبات التي ذكروها جميعاً، ويكفي المعارض العقلي وحده في ردها، وهذه من أخطر القضايا، ولهذا لما تكلم ابن القيم رحمه الله في كتابه (الصواعق المرسلة في غزو الجهمية والمعطلة) ذكر أربعة أصول وسماها -بحسب تعبيره- طواغيت، قال: أربعة طواغيت نصبها أهل التأويل لدك معاقل الوحي، أي: من أجل ألا يكون هناك استدلال بالنصوص الشرعية، وأنا عندما أقول من أجل كذا فهم ليسوا جميعاً من المنافقين، فبعضهم وصل لهذه البدعة بسبب عدم دراسة العلم على أصوله الصحيحة، وبعض الأحيان لوجود أهواء، وبعض الأحيان قد يكون عند بعضهم تعبد وحسن قصد، لكن حسن قصده هذا لا ينفعه إذا كانت المقالة والفكرة التي جاء بها فكرة فاسدة معارضة للنصوص الشرعية، وبعضهم كان يقاتل النصارى ويرد عليهم ويواجه الباطنية.
والغزالي نفسه رحمه الله من الذين كانوا يقولون بمثل هذه المقالات، وقد ألف (تهافت الفلاسفة) وألف (فضائح الباطنيين)، وكان له موقف شديد جداً من هؤلاء، لكن هذه البدع عندما تنتشر ويتساهل فيها الخلق تغير أديان الناس، وتغير مقالات الناس، وتغير أفكار الناس، فهذا أبو حامد كما قلت إمام مشهور يقول عنه تلميذه أبو بكر ابن العربي يقول: دخل شيخنا الغزالي في بطن الفلاسفة ولم يخرج منه، يعني: دخل في جوف الفلاسفة فهماً ودراسة فلم يخرج، يعني: خرج وهو متأثر، مع أنه كفر الفلاسفة، بسبب ثلاث مقالات كما سبق وأن أشرنا في الدرس الماضي.
والشاهد: أن الأربعة الطواغيت التي نصبها أهل التأويل لدك معاقل الوحي هي: أولاً: طاغوت أن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين.
والطاغوت الثاني: أن النقل لا يقبل إذا عارضه العقل.
والطاغوت الثالث: المجاز.
والطاغوت الرابع: هو أحاديث الآحاد لا تقبل في العقيدة.