[التأصيل العلمي وأهميته]
لا يخفى أهمية دراسة العلم وتحصيله، وقد كتب علماء السلف رضوان الله عليهم كثيراً من الكتب في بيان ذلك، وتضمنت كتب أصول الفقه في باب الاجتهاد والتقليد ما يبين أهمية العلم وضرورته للإنسان، وضرورته للأمة في كل وقت وفي كل مرحلة.
ويوجد لدى كثير من الناس مع الأسف زهد مذموم، هذا الزهد هو الزهد عن العلم، وكثير من الناس لديه أفكار غريبة، وهي في الحقيقة من الأفكار الرديئة التي يلقيها الشيطان في النفوس، وهي أن العلم سهل ويمكن تحصيله، وأن الكتب اليوم تملأ المكتبات وأن الإنسان إذا أراد العلم فيمكن له أن يشتري هذه الكتب ويحقق ويبحث، وباستطاعته أن يحصل العلم من خلال هذه الكتب، والتهوين من شأن العلم بهذه الطريقة، والتهوين من شأن مدارسة العلم والترقي فيه، لا شك أنه خطأ، وأن هذا يدل على جهل صاحبه بمقام العلم، فإن العلم لا يحصل من خلال القراءة فقط، فإن القراءة وتكثير القراءة هي جزء من التثقيف، فيمكن للإنسان أن يكون مثقفاً لديه معلومات مفرقة من هنا وهناك، ولديه ثقافة خصوصاً إذا كان ذكياً ويحفظ، ويمكن أن يكون لدى الإنسان شيء من هذه المعلومات، لكن ليس شأن العلم هكذا، وإنما شأن العلم أن يحفظ الإنسان العلم بالتدريج، ويأخذ المسائل الصغيرة، ثم يأخذ المسائل التي هي أكبر منها، ثم التي بعدها وهكذا، وتكون دراسته دراسة مؤصلة.
والتأصيل العلمي لا شك أنه لا يعتمد على كثرة القراءة المجردة، فإن كثرة القراءة كما سبق تنتج إنساناً مثقفاً لديه معلومات متنوعة، وأما التأصيل العلمي فإن الإنسان يبني نفسه كما تبنى البيوت الآن، فأولاً يبدأ بالقواعد، ثم بعد ذلك يبني نفسه حتى يكتمل بناؤه العلمي.
ولهذا نجد الفروق واضحة بين العلماء والمثقفين، بين العلماء الذين درسوا العلم وخبروه، وعرفوا جوانبه، وعرفوا دلالاته، وعرفوا معانيه، وما يوجد في المسائل العلمية من الغموض ونحو ذلك، وبين المثقفين الذين لديهم معلومات مفرقة من هنا وهناك؛ ولهذا يا إخواني! أدعوكم وأدعو نفسي أولاً إلى أن نعتني عناية كبيرة بمسألة تأصيل العلم، وأن يكون التثقيف في الأوقات التي يكون للإنسان قدرة على أن يثقف نفسه، فالثقافة مهمة جداً، لكن العلم المقصود به هو أن الإنسان يدرس العقيدة والفقه والحديث والأصول، فيدرس هذه العلوم جميعاً بطريقة متأنية، فيأخذ المسائل الصغيرة حتى يعرف طريقة أهل العلم في الاستدلال، وكيفية التعامل مع الأدلة، وهذا هو ديدن السلف وطريقة السلف السابقين رضوان الله عليهم.
فإن علماً كاملاً مثل أصول الفقه تم استنباطه من خلال النظر في فتاوى الصحابة رضوان الله عليهم، وكيف كانوا يفتون، وكيف كانوا يستدلون، وطريقة الاستدلال عندهم، ومناهج الأدلة ونحو ذلك، فتكون علم كامل هو (علم أصول الفقه)، وهو علم معياري يبين للإنسان كيف يمكن له أن يستدل ويكون استدلاله صحيحاً.
وإن كان مع الأسف قد دخلته علوم المتكلمين بسبب اشتغال أهل الكلام بالأصول، فأدخلوا فيه كثيراً من القضايا النظرية التجريدية المحضة، وأدخلوا فيه شيئاً من البدع التي كانت عندهم، لكن يبقى أن لهذا العلم جلالته وأهميته في ضبط مناهج الأدلة والاستدلال.
فينبغي للإنسان أن يهتم بالعلم، وأن يعظم هذا الجانب، وأن يهتم به اهتماماً كبيراً، وأن يصبر ويحرص، وأن يجتهد وأن يضبط وقته ليلاً ونهاراً؛ من أجل تحصيل هذه العلوم الشريفة، فإن الأمة بحاجة إلى علماء عاملين، وكان الإمام البخاري رحمه الله يقول فيما رواه عنه اللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) يقول: سمعت أكثر من ألف -وذكر من علماء الشام والعراق واليمن ومصر وغيرها- كلهم يقول: أن الإيمان قول وعمل، يعني: أنهم ألف عالم من العلماء كان في زمانه كلهم على عقيدة أهل السنة يرون أن الإيمان قول وعمل، فهؤلاء الذين لقيهم البخاري فقط، وقد يكون هناك أشخاص كثيرون لم يلقهم البخاري ولم يرهم وهم علماء.
فنحن بحاجة إلى إعادة الحركة العلمية لأمتنا، ولهذا مع الأسف فإن العلماء اليوم يعدون على الأصابع، أقصد العلماء العاملين الذين يعرفون الأدلة الشرعية، وأما الذين يحسنون الكلام فهم كثير، ولهذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه في بيانه لأوصاف آخر الزمان: أنه سيأتي على الناس زمان يكثر فيه الخطباء، ويقل فيه الفقهاء والعلماء.
فالخطباء الذين يحسنون الكلام، والذين يحسنون الوعظ، والذين يحسنون الكتابة كثير، لكن أصحاب الفقه الذين يعرفون مقاصد الشريعة، والذين يعرفون مقاصد هذا الدين، والذين يدركون هذه الحقائق بشكلها الشرعي الصحيح، هم في الحقيقة قلة في الناس، ولهذا كما قلت: نحن بحاجة إلى هذا الأمر.