[لزوم منهج السلف في إثبات صفات الله تعالى]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم، كلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تعرض لتأويله].
قوله: (لتأويله) يعني: لصرفه عن ظاهره، وقد سبق أن أشرنا إلى أن ابن قدامة رحمه الله له كلام فيه نظر في قضية التعامل مع معاني صفات الله سبحانه وتعالى.
فيفهم من كلامه أنه لا يمكن لنا إدراك معاني صفات الله عز وجل، ولا شك أن هذا غير صحيح، لكن أيضاً لا يمكن للإنسان أن يقول: إن ابن قدامة رحمه الله من المفوضة، فهو وإن أخطأ في هذه المسألة إلا أنه ليس من المفوضة؛ لأن المفوضة ينفون الصفات أولاً، ثم ينكرون أن يكون لها معان ثانياً، فهو خالفهم في الصفات، حيث أثبت الصفات كما سيأتي معنا، لكنه أشكل عليه موضوع المعنى؛ لأنه ظن أن الصفات من المتشابه، وفهم آية آل عمران بأن الراسخين في العلم لا يمكن أن يعرفوا المعنى، وأن الوقف لازم، ففهم من هذا أن المعاني لا يمكن إدراكها، مع أنه يثبت الصفات.
ولهذا يعتبر هذا في حد ذاته تناقضاً، لكن لا يصح أن ننسب إماماً مثل ابن قدامة المقدسي رحمه الله إلى التفويض؛ لأن ابن قدامة رحمه الله كان على منهج السلف بدليل إثبات الصفات كما سبق أن أشرنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد أمرنا بالاقتفاء لآثارهم، والاهتداء بمنارهم، وحذرنا المحدثات، وأخبرنا أنها من الضلالات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضواً عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم! وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كلاماً معناه: قف حيث وقف القوم؛ فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم حدث بعدهم فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسر، وما دونهم مقصر، ولقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم].
سيأتي معنا إن شاء الله مبحث خاص عن موضوع الوسطية ومفهومها الشرعي ومعناها، وابن تيمية رحمه الله أفرد جزءاً من (الواسطية) للكلام على مفهوم الوسطية ومعناها، فما هو معنى الوسطية؟ ومتى يكون الإنسان وسطياً؟ لأن الدعاة الذين يتكلمون عن الوسطية كثر، وأصبح كثير من المتساهلين وكثير من الذين يركنون إلى الدنيا يسمون منهجهم وسطياً، في مقابل أنهم يعتبرون مثلاً المجاهدين من المتشددين، مع أن الحقيقة أن المجاهد لا يعتبر متشدداً بل هو الوسطي الذي وافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما دونه مقصر ولا شك.
قال المصنف رحمه الله: [وقال الإمام أبو عمرو رضي الله عنه: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول].
الله أكبر، فالإنسان يحرص دائماً على النصوص الشرعية، وعلى ما تدل عليه من المعاني، وأما ما يزخرفه كثير من الناس ويزينه من الأقوال فينبغي عرضها على الكتاب والسنة، فإن كانت موافقة قبلت، وإن لم تكن موافقة فينبغي للإنسان ألا يشتغل بزخرفة هؤلاء عن الحق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن عبد الرحمن الأذرمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها].
هو محمد بن عبد الرحمن الأذرمي بالذال، وقد ترجم له الخطيب البغدادي رحمه الله في (تاريخ بغداد)، وقال ذلك لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها، وهذا في مناظرة له مع ابن أبي دؤاد، وقد تمت بين يدي الواثق، والأذرمي هذا رجل من أهل السنة، وذلك عندما بدأت فتنة خلق القرآن واشتهرت، واستمرت في عصر المأمون ثم عصر المعتصم حتى جاء الواثق.
وكان المعتزلة يمتحنون الناس، ويتخذون السلطة وسيلة من وسائل الضغط على أهل السنة في تغيير مناهج الناس وعقائدهم، فثبت أئمة السنة وخصوصاً الإمام أحمد رحمه الله، واشتهر وصار معروفاً لثباته على السنة، فجاء الرجل الأذرمي وناقش ابن أبي دؤاد مناقشة دقيقة جداً، وابن أبي دؤاد ليس من أهل العلم، فالذي يرجع إلى أحداث الفتنة ويقرأ مناقشة الإمام أحمد رحمه الله لهم يدرك أن ابن أبي دؤاد لم يكن من أهل العلم، ولا كان يشتغل بالعلم، وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول للمعتصم: يا أمير المؤمنين! أعطوني آية من كتاب الله أقول بها، أو حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يردون عليه ويقولون: وأنت ما تعرف إلا القرآ