[منهج التصحيح ومنهج التعميق في دراسة الغيبيات]
ونحن في دراسة هذه الغيبيات لنا منهجان: المنهج الأول: منهج التصحيح، بمعنى أن ندرس العقائد الغيبية ونصحح ما تعلق بها من الانحرافات عند الفرق الضالة، ونبين ما تدل عليه النصوص الشرعية فيما يتعلق بهذه الأمور الغيبية، وهذا المنهج ندرس فيه الغيبيات وندرس فيه الأسماء والصفات وندرس فيه توحيد الألوهية، وهذا هو السائد في كتب أهل العلم فيما يتعلق بالعقيدة.
المنهج الثاني: هو منهج التعميق، بمعنى تعميق الإيمان بهذه الأمور، فكل واحدة من هذه الأمور لها جوانب إيمانية عظيمة جداً، وهي ثمرة الإيمان بهذه الأشياء.
فنحن عندما ندرس البعث والحشر والموازين والصراط والجنة والنار ندرسها من باب التصحيح؛ لأن هناك عقائد منحرفة تعلقت بها، فنحن نصحح هذه العقائد ونبينها من واقع النصوص الشرعية بشكل مختصر؛ لكن لها جانب آخر، وهو أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يدرسون هذه العقائد، ويتأثرون بما تدل عليه من المفاهيم والمعاني.
كذلك نحن ندرس أحوال الجنة لكي نشتاق إليها، ويؤثر هذا في نفوسنا عبادة عظيمة وهي عبادة الرجاء والتعلق بالله والتمني لدخول الجنة، ويحثنا هذا ويدعونا إلى العمل الصالح، وعندما ندرس النار فإن هذا ينمي في قلوبنا عبادة شرعية وهي الخوف من الله عز وجل والدعوة للهروب من الذنوب والمعاصي، وعندما ندرس الأسماء والصفات فندرس -مثلاً- أن الله الغني فهذا يدعو إلى الطلب من الله عز وجل، وعندما ندرس أن الله عز وجل هو الرقيب فإن هذا يدعو إلى الخوف من الله عز وجل في شئوننا، عندما نكون منفردين.
وعندما ندرس أن الله عز وجل هو الجبار والمنتقم سبحانه وتعالى، فإن هذا يورث في نفوسنا العزة بالله سبحانه وتعالى، وأنه سينتقم لعباده المؤمنين من أهل الكفر والظلم والطغيان، وعندما ندرس أن الله هو الرحمن الرحيم فإن هذا يطمعنا في رحمة الله.
فهذه المعاني هي جزء من العقيدة، لكن مع تصنيف العلوم وتقسيمها صارت هذه المسائل تدرس في باب التفسير، أو في الزهد والرقائق، أو في باب الآداب الشرعية، أو في السلوك، مع أنها داخلة في صلب العقيدة، ويتحدث عنها أهل العلم أحياناً باسم أعمال القلوب.
لكن نحن اعتدنا من خلال دراسة العقيدة في كتاب التوحيد مثلاً والواسطية ولمعة الاعتقاد والطحاوية ونحو ذلك، أن ندرس بالمنهج الأول وهو منهج التصحيح، مع أن المنهج الثاني جزء من العقيدة أيضاً حيث ندرس فيه تعميق العقيدة، فلهذا نقول: فلان عقيدته قوية، بمعنى أنه فهم العقيدة بذهنه والتزم بها في سلوكه وخلقه ودينه وخوفه من الله سبحانه وتعالى.
فأحياناً تكون العناية بالتصحيح على حساب التعميق، وهنا يكون الخطأ.
ولهذا استغل الصوفية فجوة في فهم بعض أهل السنة للعقيدة، حيث يفهم كثير من الناس أننا ندرس مسائل الأسماء والصفات فنثبتها كما أثبتها الله عز وجل وكما أثبتها الرسول صلى الله عليه وسلم، ونرد على الأشاعرة ونرد على المبتدعة الضالين فيها بهذه الطريقة العقلية المحضة، نحن نقول: هذا جزء أساسي من دراسة العقيدة، فلابد أن نصحح العقيدة للناس حتى يعتقد الناس العقيدة الصحيحة كما بينها الله عز وجل وكما بينها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا باب عظيم، والذين يدافعون عن العقيدة في هذا الباب نسميهم حماة للدين وحماة العقيدة؛ لكن أيضاً فإن من العقيدة الإيمان بأعمال القلوب من الخوف والرجاء والإنابة والتوكل والبكاء من خشية الله والتعبد وذكر الله عز وجل والتأثر بالقرآن وتدبر القرآن، هذه كلها من العقيدة، ولهذا أقول: لا ننشغل بدراسة المتون في العقيدة مثل: متن كتاب التوحيد متن كشف الشبهات متن الأصول الثلاثة متن العقيدة الواسطية متن التدمرية متن العبودية متن العقيدة الطحاوية مع شرحها؛ لا ننشغل بهذا بحيث نجعل طالب العلم إذا درس هذه المتون فإنه أكبر إنسان في العقيدة، فإن الإنسان قد يدرس هذه المتون وعمله الصالح ضعيف، وخوفه من الله ضعيف فيكون العامي أقوى منه عقيدة.
إذاً لابد أن ندرس العقيدة بهذين المنهجين، وهذه القضية تتضح في القضايا الغيبية أكثر منها في غيرها، وإلا فإن كل باب من أبواب العقيدة له جانب سلوكي وإيماني قوي جداً حتى باب القدر، ولهذا أحد الغربيين يقول: المسلمون الأوائل كانوا يؤمنون بالقدر وكذلك المتأخرون يؤمنون بالقدر، لكن الأوائل كان القدر يدفعهم للقتال في المعارك؛ لأنهم يعلمون أن الآجال مكتوبة بقدر الله عز وجل، فهذا يدعوه إلى الشجاعة وأنه لن يتأخر يومه إذا دخل في المعركة، بينما المتأخرون فهموا القدر بأنه سلبية وأن الأمور مقدرة فتركوا العمل! فانظروا إلى أثر الانحراف في العقيدة والسلوك، وأن العقيدة الصحيحة تؤثر أيضاً في السلوك، فينبغي إدراك هذه القضية بشكل جيد.
قال المؤلف رحمه الله: [وأهل الجنة فيها مخلدون {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:٧٤ - ٧٥]، ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار ثم