شرح قوله: وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه
قال ابن قدامة: [وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه].
قوله: (وما أشكل من ذلك) يعني: ما كان من المتشابه، ولهذا فالنصوص الشرعية تنقسم إلى قسمين: محكم ومتشابه.
المحكم: هو الواضح البين، ولهذا قال تعالى: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:٧] يعني: هن أصل الكتاب وأساس الكتاب.
قال: {وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:٧]، المتشابهات هي التي تكون خفية الدلالة وغير واضحة المعاني.
وهناك نصوص فيها إشكال، ونصوص اختلف العلماء فيها هل هي من نصوص الصفات أو ليست من نصوص الصفات، كالآية التي وردت في إثبات الساق {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:٤٢] اختلف العلماء فيها هل تتضمن إثبات صفة الساق لله عز وجل أو لا تتضمن؟ أما الصفة نفسها فقد دل عليها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وعلى كل حال هذه الصفة بشكل خاص هي الصفة الوحيدة التي وقع فيها الخلاف، لكن الكلام في القاعدة العريضة العامة.
ومن هنا فباب الصفات يعتبر من المحكم في أصله وفي قاعدته، لكن قد تكون بعض النصوص مورد إشكال، وتكون غير واضحة في الدلالة والمعنى، وحينئذٍ إذا وقعت مثل هذه النصوص نردها إلى المحكم، ولهذا انقسم الناس في التعامل مع المتشابه إلى فريقين: الفريق الأول: (الذين في قلوبهم زيغ) وهم الذين يتبعون المتشابه، يأخذون النص ويبترونه، ثم يوظفونه في الشيء الذي يريدونه من الأفكار والعقائد، وأما أهل العلم فإنهم إذا وجدوا النص المشكل ردوه إلى أساسه المحكم الواضح.
قال ابن قدامة رحمه الله: [وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله اتباعاً لطريق الراسخين في العلم، الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:٧]، وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:٧]، فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أملوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:٧]].
هذه الآية وهي آية المتشابه في سورة آل عمران اختلف أهل العلم في تفسيرها اختلافاً كبيراً، ولـ شيخ الإسلام رحمه الله رسالة مستقلة في هذا الموضوع بعنوان: الإكليل في المتشابه والتأويل، وهي مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى الكبير.
هذه الآية يقول الله عز وجل في بدايتها: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:٧]، فإلى هذا الحد متفق عليه وليس فيه اختلاف، والمقصود بهذه الآية أن القرآن مشتمل على محكمات واضحات بينات هن أم الكتاب، (وأخر) يعني: نصوص أخرى فيها اشتباه وإشكال في المعنى، فينبغي أن ترد إلى المعنى المحكم.
هناك خلاف دقيق لا يعنينا الآن في تفسير معنى المحكم، فبعضهم مثلاً يقول: المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ، وبعضهم يقول: المحكم هو الواضح، والمتشابه هو غير الواضح المبهم، وبعضهم يرى أن المحكم هو الخاص، والمتشابه هو العام ونحو ذلك، لكن الذي يهمنا هو الفهم العام لهذه الآية.
قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران:٧]، يعني: أهل الأهواء {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:٧]، يعني: يذهبون إلى النصوص التي في معانيها إشكال {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران:٧] يعني: طلب الفتنة، والمقصود بالفتنة هو الشرك أو البدعة أو العقيدة الفاسدة عموماً {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:٧] يعني ابتغاء حقيقته.
فهؤلاء الذين في قلوبهم زيغ يريدون باتباعهم للمتشابه وإعراضهم عن المحكم يريدون الفتنة من جهة، ويريدون الوصول إلى حقيقة الشيء من جهة أخرى! لو قال قائل: لماذا لا يكون معنى {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:٧] تفسيره؟ نقول: ليس في هذا ذم، يعني: لو كان المقصود أنهم يبتغون تفسير القرآن، فإن كل المسلمين يبتغونه، ولهذا أمرنا الله عز وجل أن نتدبر القرآن فقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:٢٩]، ولا يمكن تدبر الآيات إلا بفهم تفسيره، ولهذا ذم الله عز وجل الذين لا يتدبرون فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ ع