[نفاة العلو من أهل البدع]
صفة العلو من أبرز الصفات، ومع ذلك نفاها المعتزلة بحجة أن هذا يقتضي التحيز، ونفاها أيضاً متأخرو الأشاعرة بحجة أن هذا يقتضي التركيب والجسمية، وهكذا نفاها أيضاً المتأخرون من الماتريدية، وإن كان المتقدمون من الأشعرية يثبتونها، فـ الأشعري والباقلاني وتلاميذ الأشعري كانوا يثبتون العلو، وإنما حصل نفي العلو من زمن أبي المعالي الجويني فما بعد.
وهذه الصفة هي من أبرز صفات الله سبحانه وتعالى، وحصل عند المتأخرين تردد شديد في التعامل مع هذه الصفة، وأصبح كثير من هؤلاء - مع الأسف - ينفون علو الله عز وجل، فاحتاروا عندما يقال لهم: إذا لم يكن في السماء فأين يكون؟ فانقسموا إلى قسمين.
الذين بقوا على المصطلحات الكلامية والمناقشات العقلية كانوا يقولون: لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا عن يمين العالم ولا عن شمال العالم، ولا محايث له ولا مباين له ولا داخل فيه، فأثبتوا له الأمور المتناقضة، أثبتوا لله عز وجل وصف الممتنع - والعياذ بالله - بسبب الهروب من إثبات هذه الصفة، بسبب الشبهات التي قامت عندهم في صفات الله سبحانه وتعالى.
وأما المشتغلون بالتصوف والتزهد؛ فإن التصوف والتعبد لا بد فيه من وجود المعبود حقيقة، يعني: لا يمكن لهم أن يتعبدوا لمن صفته لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا محايث له ولا مباين له، فأصبحوا يقولون: إن الإله موجود في هذا العالم، وإن الله عز وجل موجود في كل مكان.
فقول الأولين: لا داخل العالم ولا خارج العالم، وقول الآخرين -الصوفية بالذات- موجود في كل مكان هو قول متفق في الحقيقة مختلف في طريقة التعامل في هذه الصفة، فهم متفقون على نفي صفة العلو، لكنهم اختلفوا في الجواب على السؤال، إذا لم يكن في العلو فأين هو؟ ولهذا حرم بعضهم السؤال بأين، لأنها تدل على الظرفية، وتدل على المكانية، ولا يصح أن نثبت لله عز وجل ظرفاً أو مكاناً.
وهذه العبارات: الظرفية والمكانية والجسم والعرض ونحو ذلك من العبارات؛ هي مصطلحات لا يصح لنا أن نقبلها مطلقاً فنقبل شيئاً من الباطل، ولا يصح أن نردها مطلقاً فنرد شيئاً من الحق، وإنما نستفصل فنقول: ماذا تعنون بالظرفية؟ إن كنتم تعنون بالظرفية: أن الله عز وجل في ظرف يحيط به، فهذا معنى فاسد لا نقول به.
وإن كنتم تعنون بالظرفية: أنه في جهة العلو سبحانه وتعالى، فنحن نقطع أنه في جهة العلو عن علم ويقين.
وصفة العلو يدل عليها العقل، وتدل عليها الفطرة، وتدل عليها النصوص الشرعية الكثيرة في الكتاب والسنة، بل إن هذه الصفة يثبتها أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولا ينفيها إلا مثل هؤلاء، أو من شابههم من أصحاب الديانات الأخرى، فهؤلاء جاءوا ببدعة خطيرة ومؤثرة على عقيدة المسلمين.
يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه درء تعارض العقل والنقل: أنه جاءه يوم من الأيام أحد نفاة العلو، يقول: فلما جاءني يطلب حاجة مني ماطلته، فلما ماطلته ضاق صدره، فنظر إلى السماء، وقال: يا الله، يقول: فقلت له: أنت محقر، لماذا تنظر إلى السماء؟ فكأنه ارتبك، وقال: أخطأت.
قال: لم تخطئ.
هذا ما تدل عليه فطرتك، وهذا ما يدل عليه العقل السليم، وهذا ما تدل عليه النصوص الشرعية.
فرجع ذلك الرجل، وشعر أنه يناقض فطرته.
ولهذا كثير من الأشعرية المتأخرين إذا جاء إلى صبي من الصبيان الصغار فسأله: أين الله؟ أشار الطفل إلى السماء، أو قال: في السماء، فيحاول أن يعلم الطفل أنه ليس في السماء؛ فهم يحاولون عبثاً أن يغيروا فطرة الناس.
ولهذا أبو المعالي الجويني -وكان من أبرز الأشعرية الذين نفوا هذه الصفة- لما جاءه الهمذاني، وقال له: دعك من التأويلات والمناقشات العقلية، أجبني عن الضرورة التي يجدها الإنسان في نفسه عندما يدعو، لماذا يتجه قلبه إلى السماء؟ فأصبح الجويني يضرب على رأسه مع أنه من كبار المتكلمين ويقول: حيرني الهمذاني، حيرني الهمذاني! وفعلاً حيره لأنه استدل بالفطرة، وهي دليل موجود في قلب كل إنسان.
ولما قيل لهم: إذا كنتم تعتقدون أن الله عز وجل ليس في السماء، فلماذا ندعو بهذه الطريقة؟ قالوا: لأن السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة المصلي.
وهذا هروب في الحقيقة؛ لأن القضية لا تقف عند رفع الإنسان يديه، وإنما هناك حاجة نفسية وضرورة في الاتجاه نحو العلو.
إذاً: هذه الصفة يدل عليها العقل والفطرة والحس والنصوص الشرعية الكثيرة التي بلغت أكثر من ألف دليل، ويمكن مراجعة اجتماع الجيوش الإسلامية لـ ابن القيم، ففيه تفصيل طويل حول هذه الصفة.
ليس هناك شيء من الأبيات في حائية ابن أبي داود يتعلق بهذه الصفة بشكل مباشر، وإن كان يمكن أن نستنبط ذلك من صفة النزول؛ لأن أحاديث النزول وآيات الإتيان والمجيء كلها تدل على العلو؛ لأن النزول لغة يكون من أعلى إلى أسفل، فهي تدل على صفة العلو من جهة أخرى، لكن