ومما يجعل الهمة تضعف عند كثير من الناس: تعظيم الآخرين إلى درجة، فبعض الناس قد يعظّم شيخه، أو يعظّم عالماً من العلماء، أو قائداً من القواد، أو شخصاً من الأشخاص، فيرى أنه لا يمكن أن يصل إلى مرتبته، مع أنه بإمكانه أن يصل إلى مرتبته وأكثر إذا كان عنده همّة عالية، وكان عنده تنظيم لوقته، وكان عنده قدرة على ترتيب أحواله.
مما يسبب انخفاض الهمة وضعفها: أن بعض المربين سواء الآباء أو الأساتذة أو المشايخ يستخدم أسلوباً معيناً يغرس في نفس من يرافقه أنه سيبقى بهذا المستوى إلى الموت! وأن أعلى مستوى يمكن أن يصل إليه الإنسان هو هذا المستوى، أو هو مستوى فلان أو مستوى فلان! وهذا غير صحيح، وهذا الكلام غير واقعي أيضاً.
وبعضهم لديه توجيه معين، كأن يكون أستاذاً في مدرسة أو في معهد، أو مشرفاً على مؤسسة، أو لديه أي عمل من الأعمال الإشرافية على الأشخاص، فيجب أن لا يجعل ذاته هو المحور، فبعض الناس لا يهمه إلا ذاته ومدح الناس له، فهو يحاول أن يجعل مستواهم منخفضاً، حتى ينظروا إليه أنه أفضل إنسان! وهذا ظلم للأمة، فيجب أن نفجر طاقات الناس قدر ما نستطيع، وبعض الأحيان قد تضعف همتي فلا أستطيع أن أصل إلى مرتبة كبيرة، لكن تلميذاً من تلاميذي همّته تصل إلى أعلى بكثير من همتي، فهمتي أنا ضعفت وهمته علت؛ ولهذا كان العلماء القدامى يربون تلاميذهم، فالذين كانوا يدرسون ابن تيمية رحمه الله مجهولون غير معروفين، فهم معروفون بأسماء محدودة ولم يقدموا من الأعمال ما قدمه ابن تيمية، تخيلوا لو أن ابن تيمية وهو يدرس على هؤلاء يجد التحطيم منهم، ويجد الرد والنقد اللاذع منهم، ويجد الاستحقار والاستهانة والإشعار بالدونية؛ فهل تتصورون أن النفسية هذه ستتحمل الصعاب التي واجهها ابن تيمية رحمه الله وصار على مستوى عالٍ جداً؟ لن تتحمل، ولهذا فمن أخطائنا نحن على مستوى المربين، وعلى مستوى المدرسين، وعلى مستوى أي موجه أو أي مشرف هو أن الإنسان ينظر إلى ذاته، ويريد من الآخرين أن يكونوا تحته، ويجب أن يكونوا هكذا! وهذا ظلم وعدوان، فيجب علينا أن نزيل مثل هذه المظاهر، لكن ليس بالشغب، أو ترك أعمال جماعيةٍ أو أعمال خيّرة أو فاضلة يجتمع فيها الدعاة والصالحون، أو المدارس بعضها مع بعض، أو تضطر أن تكون جريئاً على أستاذك فتتكلم عليه بكلام سيئ؛ لكن بالمناصحة، وأن يكون لدينا من الشجاعة الأدبية ما نستطيع أن نواجه به مثل هذه الأخطاء القائمة.
إذاً: ينبغي على المشرفين على أي عمل من الأعمال أن يفجّروا طاقات المجموعات، كأن يفجّر من نفوس هؤلاء أن يكونوا قادة، وقد ذكر أن دكتوراً في جامعة من الجامعات كان يُدَرِّسُ مرحلة البكالوريوس، وكان هذا الدكتور يدرس مادة المنطق، وغالب طلاب البكالوريوس لا يعرفون هذا العلم، ويعتبر علماً مجهولاً بالنسبة لهم؛ فيتساءلون: كيف يدرسون هذا العلم؟ وكان هذا الأستاذ في أول محاضرة من محاضراته يدرس المجموعة الجديدة الصغيرة التي لا تعرف علم المنطق الجديد، وكان بإمكانه أن يصور لهم العلم بأسلوب سهل جداً، ويبين لهم أن الموضوع سهل، وبإمكانهم أن يتعلموه، ويشجعهم على هذا الأمر! لكن انظروا ماذا فعل؟ فالدكتور معروف في شخصيته أنه يحب من الطلاب أن يرفعوه ويعطوه مكانة كبيرة ويمدحوه ويثنوا عليه، وله بضاعة من العلم فيها خير، وله مذكرة تدرس في الدراسات العليا، فقال له طالب من الطلاب: يا أستاذ! لماذا لا تأتي بالمذكرة التي تدرس في الدراسات العليا، وتجعلنا نطّلع عليها لننظر ما فيها؟ فقال له: كيف تقولون ذلك وأنتم ما زلتم في مرحلة بكالوريوس! فأنت لو تقرأ هذه المذكرة التي تدرس في الدراسات العليا فإن عقلك سيكل ولن تفهم شيئاً! فالطالب حين يجد الاستهزاء من أستاذه بهذه الطريقة سيقتنع بذلك، خصوصاً إذا كان يرى أن هذا الأستاذ محترم وأنه المتخصص في هذا الباب، وله مكانة كبيرة! وسيتحطم داخلياً، وأنه لا يمكن أن يفهم هذا العلم أبداً إلا هو؛ علماً أن المسألة أبسط من هذا بكثير، فقد اكتشف هؤلاء الطلاب أن فهم هذا الأستاذ لهذا العلم محدود، وأنه بإمكان هؤلاء الشباب الصغار أن يفهموا هذا العلم ويتجاوزوه وينقدوه.
ومن اللطائف: أن أحد الطلاب كان من الأذكياء، وأثناء تدريس المادة كان يعترض على الدكتور مع أنه صغير، فكان الدكتور يقول له: أنت تذكرني بنفسي لما كنت صغيراً، وهذه نظرة غريبة، فهذه العقلية يفكر بها أعداد غير قليلة ممن يتولى التدريس في المدارس، أو يتولى أي عمل من الأعمال، فتجد أنه يحطم همة الآخرين.
فهذه زاوية من الزوايا الموجودة في إضعاف الهمة، مع أن الواجب على الإنسان أن لا يعتمد على الغير دائماً في تقوية الهمة، يعني: لا تعتمد دائماً على أستاذك في تقوية همتك! بل قوِّ همتك ذاتياً، فيكون عندك عمل ذاتي في تقوية الهمة وتشجيع النفس بغض النظر عن الآخرين، سواء أثنى عليك أو لم يُثنِ عليك، أو سواء شجعك أو لم يشجعك، فلا يهمك هذا.